الخلل – ديوان الشاعرة نداء خوري
نداء، أيتها الشاعرة المجددة والمتجددة أبداً! شِعرك هجمة انتحارية على القبح والانحطاط والظلام، لأنك تعرفين أن القصيدة التي لا تُحدث ارتجاجاً في القشرة الأرضية ولا تُشعلُ الحرائق في الوجدان العام لا قيمة لها، كما أنه لا قيمة لشعرٍ يحترف الخوف والتّسَتُّرَ من أيَّة مواجهة.
أنت تحملين همّ المرأة لا ككلّ النساءِ لأن روح الغيرةِ تقتل في المرأةِ حقوقها في العيشِ الحر والمساواة الحقيقية مع من يحرمُها من هذه الحقوق، ولما كانت روح الحسدِ لدى الكثيرات تشعل حولك وحول اسمِك عشرات الحرائق والقصص والحكايات فإنك تتعالين فيما تكتبين وتمعنين في تحدِّي هذا المجتمع الكابت، تأتين بالجديد المثير وبصراحتِكِ المعهودةِ فتتألقين كالنبيذ المعتّق أو كالفراشات الخارجة على التوّ من شرنقاتها تلهو تحت أشعةِ الشمسِ في صباح كل يومٍ جديد، تمضين كالعطرِ ولكن بلا بيتٍ فيصدمُك الزمن الذي يفتّت العروق فتحفرين في الحجر حتى يرهقك الاشتهاء ويقتلك همُّ الغفران وتحترقين على مذبح الشهوة وتتسللين من شريان الأرضِ فتشربكِ الأرض لتتحوّلي وردةً ترشفُها الشفاهُ فتصادرها العقول، لماذا كلما ظهر القمر تجلسين إزاءَهُ وأنتِ تعرفين أنه لم يَعُدْ قادراً على التأثير بنا حيثُ أنه قد دخل مرحلة الكوما المزمنة فلا يهزُنا نوره المستعار من الشمس لأننا نبحث عن شمس الحقيقة داخل أنفسنا فمتى نجدُها!؟
هذه المقدمة مستوحاة من ديوان “الخلل” ببابيه باب المناولة وباب الخلاص، تأخذنا الشاعرة نداء خوري معها في سرحة وجودية فلسفية ظاهرها دفاع عن المرأة أو قل هي دفاع عن الذات الانثى أو عن نداء المرأة وباطنها فكرٌ فلسفيٌ عميق يجري في أبيات شعرها كفكر الوجوديين أمثال كيركهارد وهايدغر وجان بول سارتر وغيرهم.
الوجودية: كي نفهم الفلسفة الوجودية نقول: إنها تيار فلسفي يُعلي قيمة الإنسان ويؤكّد على تفرُّدهِ وأنه صاحب تفكير وحرّية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى مُوَجِّهٍ، مع ذلك ليست الوجودية نظرية فلسفية واضحة المعالم، فهي تعتقد أن الانسان مسؤول عن نفسه وعن أعماله، فجان بول سارتر الذي عاش في فترة الحرب العالمية الثانية ورأى كثرة الموت وعدم احترام الانسانيّة، شعر بالوحدة واليأس والقلق الوجودي لدى الفرد وعدم احترام قيمة الحياة، لأن المعاني الأساسية للوجود الانساني لديه باتت العدم، الفناء والموت، لذلك توصل مع غيره من زعماء الوجودية إلى القول: أن الانسان له اعتباره ويجب مراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره، وهذا ما أصاب شاعرتنا فكان نتيجته هذا الديوان.
لذلك فإنها تعتقد أنه يجب إعطاء الحريّة للإنسان لأن له الحق في اثبات وجوده كما يشاء وبأي وجهٍ يريد دون أن يقيّدهُ شيءٌ! وللإنسان الحق في انكار القيود حتى الدينية والاجتماعية والفلسفية. من هنا فقد اتُّهِم الوجوديون بالكفر والالحاد لخروجهم على قيم الدين والايمان المعروفة، والسبب في هذا الاتهام يعود إلى أن الكنيسة كانت متسلطّة تتحكم بالإنسان باسم الدين وتضطهده أكثر مما كان النبلاء يضطهدون عامة الشعب وذلك باسم الدين.
من لم يقرأ لنداء خوري شيئا قبل هذا الديوان سوف يجد صعوبة خاصة في قراءته لأنها كما قالت ذات يوم: “عندما يصل الشاعر حدّ السهل الممتنع وعدم الحاجة إلى اللذة كي يعبّر عن نفسه يصبح عظيماً”، حيث ينجح في تجسيد تلاحمه مع الطهر الأولي للحس والفكرة، وتضيف ان التعبير بالجسد يوصل المضمون إلى المخاطب بسرعة ودقة أكثر بكثير من التعبير بالكلمات فالجسد هو الدليل القاطع على عبثية وجودنا، لأنه لهذا الجسد جمال وشهوة وملائكية وله سقوط ونزوة واحترام وقدسيّة وله خطاياه وجروحاته وآلامه، وهو في نفس الوقت إطار الروح في الحياة فكيف تحقق الروح ذاتها داخلَ الجسدِ!
إنها تؤمن أن الابداع هو محاولة للوصول إلى الخلود أو هو هاجس لبلوغ الخلود وكل مبدع يسعى إلى الخلود عندما يكتب وإلا لماذا يكتب.
قلنا ان شاعرتنا تؤمن بحق الحرية لكل انسان وذلك لأن الحرية تعني ألا يكون الانسان ملتزماً لأي أحد! ولكن أعتقد أن عدم الالتزام بالقواعد والقوانين والقيود الاجتماعية هي الفوضى بذاتها، ومن هنا جاء فشل الحركة الليبرالية في اوروبا والتي سادت بعد الحركة الرومانسية في منتصف القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية.
من هنا جاء فكر شاعرتنا وإيمانها بمبدأ الوجودية الذي يعطي الانسان الفرد حرية القرار في شؤونه الخاصة لأنه موجود أولاً وآخراً.
الخلل: لماذا اختارت الشاعرة هذا العنوان لديوانها؟ أعتقد ان مردَّ ذلك يعود على ما تراه الأخت نداء من الخلل في الحياة الاجتماعية في طقوس الكنيسة، في ممارسات رجال الدين وفي الحياة السياسية والانحلال الذي أدى إلى الاستهتار بالقيم، فهناك خلل يسيطر في مجتمعاتنا ويجب اصلاح هذا الخلل.
سرد الحنطة:
هذا هو عنوان القصيدة الأولى في (ص-1) فهي ترى في حبة القمح قوة هائلة حيث تستطيع أن تشق بطن الخصوبة فتنبت من الأرض كالذهب الخالص ولكن بعد ان تموت وتدفن في التراب وتتجدد الحياة في مجموعة السنابل التي تكون حبلى بحبات القمح، وحبة القمح هي رمز للعضو الانثوي أي للتكاثر بخطيئة آدم وحواء.
ولما كانت حبات القمح اساس وجود الرغيف، ولما كان الفقراء يسعون جاهدين من أجل الحصول على الرغيف فإننا نرى الشاعرة تدخل في فكر فلسفي معقد حيث تقارن بين الرغيف والكعكة، فإذا كانت الكعكة تعد الناس بالقلّة والمتعة فإن الرغيف يعدهم بالدين! بقولها(ص-2): “هو الكعك يعد الناس بالقلّة وأنا أعدُهم بالدين! والضمير أنا هنا يعود الى الرغيف مقابل الكعك والشاعرة ترى نفسها كالرغيف لان الفقير يعبده بسبب القلّة والعوز في عيش هذا الفقير.
نحن نعتقد ان هذه المفارقة بين الكعك والرغيف وبين القلّة والدين فيها الكثير من العمق الفلسفي وهل الدين فيه كثرةٌ مقابل القلّة؟
في نهاية القصيدة نرى ان رغيف الخبز يموت مراراً كما مات السيد المسيح على خشبة الصليب ليفدي البشرية، هذا التناص فيه قوةُ السّبك والسرد الشعري الرائع لأن الشاعرة وصلت إلى درجة من الوعي والوحي فهي ترى نفسها أكبر من الواقع الذي تعيشُهُ وهي مستعدّة للتضحية والفداء لأنها إذ تُصلّي فإنها تحمل دَمَها على رأسِها حيث تكون مستعدةً للفداء.
لم تكتفِ الشاعرة بهذا الفداء لأنها تنتقل في القصيدة التالية “سلالة الإناث”(ص4-5) إلى قولها: إن السنبلة تتململ كأنها امرأة لأنها رمزٌ للأنوثة وهي ترى أن السنبلة تتورط بين الأحمر والانهيار في الطواحين يأخذها الحطب إلى بيتهِ اللعين يشتعل فيملأ الفرن رماداً ويحكي لها حكاية العجين وسلالة الإناث التي هي عطشٌ ونار، فكيف يكون تململُها بين الدار والحطام!؟ هنا تنتقل الشاعرة ممعنة في الرمزية الى تمازج الخبز والقمح وحبات القمح فيتحول الى عجينها يختمر كما يختمر القهر في البيت وفي المجتمع ويولد القربان الذي يقدمه الكاهن على مذبح الرب في الهيكل المقدس! اما الشاعرة فتتطرف في رؤيتها لحبات القمح التي تحولت طحينا، عجينا وقرابين على المذبح فتدعي أن جيلاً جديداً من الخبز يَكْفرُ في دين القرابين!
فما هو هذا الكفر في دين القرابين؟! إنها وجودية الشاعرة لأنها لا تؤمن أن القرابين تمحو الزلات والخطايا! فهل تمحو الكنيسة هذه الخطايا بكلمات تصدر من فم الكاهن؟!
فاذا كان الجماع احد نواميس الطبيعة وهو سر استمرارية الحياة فلماذا نُدخِلُ الدين في ذلك؟
صحيح أن الدين ينظم العلاقات الاجتماعية والزوجية ولكن الدول المتحضرة انتقلت إلى الزواج المدني لا الديني ولم يتغير شيءٌ كثيرٌ في الحياة الاجتماعية. هكذا نجد شاعرتنا ثائرة متمرّدة على المتعارف عليه في نواميس الكنيسة وهي تبحث عن الخلاص والتوبة خارج طقوسها.
إن موت حبة القمح ليس حدثاً ذا قداسة مع انها بعد الولادة تشعر أنها تحلِّق وتطير بسبب فرحها الكبير وتعيد حبات القمح مسيرتها من جديد لتموت في باطن الأرض وتعود من جديد بعد تكاثرها إلى الحياة!
تضيف الشاعرة إن الانسان محكوم عليه بالسجن المؤبدِ لأنه لا يمكن أن يولد إلا بخطيئة آدم وحواء لذلك فإنه يولد مجبولا بالخطيئة! والخطيئة ضرورية من أجل البقاء والخلود فاين الخلاص!؟
ومع كل ذلك ترى الشاعرة انها “آخر سلالة في طقوس الهرطقة” (ص 10). نعتقد أنها تقول ذلك بسبب التجارب التي مرّت بها في حياتها.
عن أنثى الحقول تقول الشاعرة: إنها حِنْطة يرْضَعُها وليد الثلم فَيُحَطِّبها المنجل ومع ذلك فإنها تحنو عليه عندما يرضعها- بشهوة فارسٍ خانتهُ أنثى الحقول، فأية أنثى هذه وهل الخيانة يجب أن تلتصق بالأنثى؟! اما الرجل ولو خان فلا تحسبُ عليه خيانته لأنه رجلٌ؟!
الرجل سيّد الأنثى:- في قصيدتها البذار (ص-10) تقول:-
” يكتب جسدها\ ثمراً للتنهّد\ يلعن زمن العبيد والتعبّد\ يعلن فيها توقيتاً للخضرةِ\ تحبلُ فيه. يلوّعُها الولوج، تتغنّى\ يلوح ربيعُها\ فيحنُّ المنجلُ\ ويجنُّ\ خصرُها\ خصرها مشبوح\ على مذابح العهد\ يسترحمُ نزول المطر\ وتوافيهِ القيامةُ بنشوةِ الوعدِ.
إنها تتحدث عن العلاقة بين الذكر والأنثى، والمطر هنا هو الذي يأتي بالنشوة! فهل تشعر الأرض بنشوةٍ عندما نبذرها؟!
في قصيدتها الغربال نجد ثورة عارمةً على المسلّمات، فهي تعيش النقمةَ على الموروثات لأنها تريد لنا ولنفسها حياة جديدة، لتتجدد كلما خانها الموقف وخانتها الأحلام وتبقى الخطيئة تتكرر أبدا لأنه بدون هذه الخطيئة لن تتجدد الحياة!
هنا تترك الشاعرة فكرةَ القمح والعجين لتنتقل إلى حياة الصبايا الصغيرات في قصيدتها القصيرة “مرثيةُ السَّبَل” فترى أن الليل يميل على الخروب ليَتَزَرْزَرَ في النهدين حبتّين كالكرز فيعود إلى معاندتها!(ص-44)
فما هذه الغزلية الرمزية المكشوفة بلا تعقيد! إنها تنادي الحنطة قائلة: “حنطة يا حنطيّة \ مال الهوا في ذيالك\ ولّع لهيب النار فيّ” (ص-24)
وتتابع الشاعرة طريق حبة الحنطة إلى الغربال وإلى الطواحين فتصف حجر الرحى وتتحدث عن الجرش والبُرْغُل وغليان القمح والعجين والخميرة والشوبك والخبز حتى تصل إلى كرسيِّ الاعتراف، أي أنها تتحدث عن مراحل حياة حبات القمح التي تشبه إلى حد كبير حياة الانثى في مجتمعاتنا!
سفر التكوين:- تقتبس الشاعرة قولا من مسرحية هاملت لشكسبير يقول فيه: “اذهبي للدير ترهبّي” (ص-48)
تتحدث في هذه القصيدة عن حواء الأنثى فتقول:” عندما اتحَّد الجسدان حواء وآدم توقّفت السنونوات عن صفيرها، فمضت محمّلةً بفاكهتها أي بمواطن الفتنة في جسدها، ذلك الجسد المدهون بالخطايا والمرهون بالتعبّد فإن روحها في هذا الوضع وفي كأسها البتول تقتاتُ من التنهّد، ويكون جسدُها كالتفاح، خطيئتُهُ تؤاخيهِ!
وتخلص الشاعرة إلى الاعتراف في نهاية هذا الجزء أي صفحة- 60 فتردد ترنيمة يقولها المصلون عند المناولة، “اقبلني اليوم شريكا في عشاءك السّرّي لأني لا أقول سرّك لأعدائك ولا أعطيك قبلةً غاشةً مثل يهوذا” وتنهي قصيدتها بالتساؤل عن السّرّ الذي يجعل الشّرَّ يتغلّب على الخير ولا يقبلُ بطبيعةُ الحياة!
باب الخلاص- الجزء الثاني
إذا كانت حبة الحنطة في باب المناولة رمزا للأنثى كما ذكرنا وهي أبداً حيِيَّةٌ وخجولة فإن كرم العنب يبني عريشته – عرزاله- ليظلّلَ أنوثة الحنطة، وعندما يسيلُ ريق العنبِ فيفور دمُهُ نبيذاً حلو المذاق فتشتهيه حباتُ القمح الإناث! أي أن العنب هنا هو رمز الذكورة مقابل أنوثة حبّة القمح، والدوالي تتعمشقُ لتصنع عريشة على أعمدةِ العرزال المبني من الحطب أو الحديد فإن عريشتها هي مغازلة وتشبثٌ بالحياة من أجل كسب وُدِّ حباّت الحنطة، وهي أي الأنثى يفيض ريقها لتتذوق حبّات الحصرم إلا أن الشمس تسارع لتلُمَّ خصرها في ظلِها فتدفن ظلّها وينتهي أمرُها (ص-61)
إذا كان الاحمر لون الدم يقدم على المذبح في الهيكل المقدّس فإنه رمزٌ لدم المسيح الذي صلب وطعن بالحربة! هكذا تكون حبات القمح قصيرة العمر اما الروح فعمرُها يطول ولذلك فإن دم العناقيد هو خمرةُ المذابح والهياكل وهو يسفك لمغفرةِ الخطايا!!
تنتقل الشاعرة هنا إلى اللغة العامّية لأنها تجد فيها سلاسة التعبير بدون تعقيد في قصيدة “باب العنب” (ص-65) فيُرهقها الاشتهاء ويحكمها التجنّي من السماء ويقتُلُها وهْمُ الغفران والمذبحُ العريانُ يُحرقُها ! (ص-65) انها إذن لا تثق بوعد السماء في أن الغفران سيأتي فعلاً من شرب النبيذ فوق الهيكل المقدس وعند المناولة! وهذا ما نعنيه بأن الشاعرة وجودية المذهب والتفكير.
إن عصير العنب هو سائل الحياة، هو النبيذ رمز الدم، هذا السائل تشتهيه العذارى، لذا فإن بذرة العنب هي رمز لاستمرارية الحياة ولولا العلاقة الجنسيّة لما داومت صراعها من أجلِ البقاء.
في قصيدتها “آلامُ العنب” (ص-67-68) تتحدث بكثير من الصراحة الايروتية حيث يتماهى الحبيب مع حبيبته ويصير الاثنان جسداً واحداً. فلنقرا ما كتبت (في صفحة 68):
“فرفطني الزند\ من أبيضهِ\ نزَّ النهد\ تعرّق جبيني\ ذابت ملامحي\ في عنقود شفاهٍ\ من جنون\ أتسلّل من شريان الأرض\ تشربني\ وتدور\ فيصبغني الورد\ تشيّعُني العطور\ ترشفني الشفاه\ تلثمني الخدودُ\ تصادرني العقول\”.
إنها ترمز إلى أمرين هنا الأول هو الاشتهاء والشهوة الجنسية والثاني هو شرب النبيذ الذي يذهب بالعقول سكراً ويلون الخدود بلونه!
وتعود إلى المقارنة بين عناقيد العنب المتدلية من عرائش الدوالي وبين صدور النساء عندما يتدلى الصدر فينتعشُ طرابين اشتهاء، فخيول الذكورة تطفو على رايةِ الانوثة فيتمّ احتضار الشهوة بعد حينٍ من الملامسة.
وتضيف في (ص-75) أنها “عندما تشرب كأس الخمرة تتحّولُ إلى فراشةٍ محروقةِ الجسد يذوب صهيلها حشاشةً في العروق لأنها رشفة خمرةٍ واحدةٍ تختمر وينكسر نهارها!
وعندما تمعن في التنكر للمسلّمات تصرخ بأعلى صوتها قائلة: “حكمةٌ تدوم\ في لفظها\ جسدٌ يلدُ بقاءَهُ\من معنى الحرام”! أي أن الولادة بالخطيئة هي ولادة الحياة بعد ممارسة الخطيئة التي هي حرامٌ!(ص-76)
الشكوى من الوحدة: في قصيدتها “العريشة” (ص-77) تشكو الشاعرة من الوحدة القاتلة وأجراسها ليس لها رنين لأنها بلا حَبْلٍ يشدها للرنين وعندما تهب الرياح تئنُّ فتفيض عليها أمواجها وحيدة فتصبُّها في عتمة الوقت وتطلق أفراسها!
وتتّخذ الريحَ عكازاً لها وتطلق أفراسَها جمع فرس ولا تقول خيولها لأن كلمة أفراس جمع إناث بينما الخيول لا تعني ذلك! وهكذا فإنها تؤكدُ أنوثتها حتى في مثل هذه التعابير.
لا ننسى ان الشاعرة في الباب السابق تحدثت عن حبات القمح وعن طحنها وتحويلها إلى خبز أو إلى قربان وفرن وإلى آخر مسيرة حبات القمح، هنا في هذا الباب تلاحق مصير حبات العنب، فإذا كان الطحن وسيلة تفتيت حبات القمح رمزاً لدوس الأنثى في المجتمع وحرمانها من حقوقها، فإنها تأخذ العصر أي عصر حبات العنب في المعصرة بمقابل الطحن كما ذكرنا، وهنا مفارقة أخرى! فحبات القمح يجب أن تموت لتعيش من جديد أما حبات العنب فيجب أن تختمر لتتحول إلى نبيذ، فكما أن الغابة تشتهي الغيم ممن أجل المطر وتصلي الأشجار عندما تتساقط عليها حبّاتُ المطر هكذا تنتظر الأنثى صناعة الحياة.
وتعود لتؤكد شكواها من الوحدة في قصيدتها “فعل اعتراف” (ص-91) بقولها: قال: أيعوي القلبُ في وجه الغرباء يبحثُ عن أُلفَةٍ؟\ قلت: لا، ما في القلب إلا وجعٌ مقيتٌ وعنينُ وحدةٍ وخفقانُ خفَّةٍ. فقال: مغفورةٌ، انت وخطاياك ومغفور جسد العواء\ في مراياك اركعي\ وصلّي فأمك عذراء وأختك في الخطيئة الأصلية\ مجدلية!”.
وتزداد الوحدة عندما تؤكد ان الجوع إله (ص-100) لأنها تضيف قائلة والشهوانية أنثاه\ يعتليها\ فنسقط فيها” (نفس الصفحة) وفي (ص-102) تكرر أنها تعيش الوحدة بقولها: “أعانق قصتي وأسافر وحدي\ رحلتي طويلة\ حياتي قصيرة\ لست وحدي\ بل وليدي ابن ليلي \ وابن القصيدة\ وكل من سياتي بعدي\ يقرأ الحكاية ويلعن القبيلة”.
فلماذا لعنة القبيلة لأن القبيلة هنا هي المجتمع المحافظ الذي يكبت غرائز الانثى فيحرمها من لذّات الحياة وتعيش وحيدة؟
الخلاصة:، بعد الانتهاء من قراءة هذا الديوان خلدتُ إلى الصمت والتفكير، فالديوان من أوله إلى آخره شكوى من ظلم المجتمع ومن الحرمان ومن الضياع، ولما كانت الشاعرة كالمهرة الجامحة فإنها لم ترضَ ولن ترض لا بالسكوت عمّا لحقها من المجتمع الكابت والملاحق ولا هي تستطيع الخلاص من الراهن وهي ما زالت في عمر الورد والياسمين والمجتمع لا يرحم.
إذن فالديوان هو صرخة المظلومة في مجتمع رجعيّ لا يعرف الحرية ولا الديمقراطية ويحرم الانثى من حقِّ القرار وكأن ذلك يجب ان يكون مرهوناً برغبة الرجل وبإرادته.
واما نحن فوجدنا أن الشاعرة تمعن في الشكوى فقد تحوّل هذا الديوان إلى ثورة معلنة على المسلّمات أولاً وعلى المجتمع ثانيا وعلى مصير الانثى ثالثاً!
فهل يأتي الحل المرغوب ويصرخ المجتمع كما في هذا الديوان أم ان الامر يتطلب أكثر من صرخةٍ، إنه يتطلب ثورة حقيقية ثورة على المألوف وعلى الرجعية وعلى المجتمع العربي! فمتى يتمّ ذلك؟!
د. بطرس دلّة . كفر ياسيف