قبل أن تغيب الشمس عن عروبة القدس
الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يدخل مرحلة جديدة تحاول إسرائيل حسمها قبل أن يستطيع الفلسطينيون وإخوانهم العرب من ترتيب أوراقهم من جديد. المؤسسة الإسرائيلية على يقين أن أمامها فرصة مواتيه محدده زمنيا وتحاول استغلالها.
المسار السياسي الذي يتبعه نتانياهو وحكومته سيقضي إلى إقناع شعبه أن لا مجال للعيش المشترك بين شعبي هذه البلاد. الاستيطان اليهودي الذي لم يتوقف يوما منذ الاحتلال في العام 1967 هو خير دليل على سياسة نفي الآخر صاحب هذه البلاد٠وبديماغوغيته سيدًعي إننا نحن اليهود لا مكان آخر لنا سوى هذه الدولة أما انتم فلكم دولكم العربية الكثيرة لذلك عليكم ترك هذه البلاد لنا. متسلحا بثقافة الخوف والتخويف يمضي نتانياهو إلى إقناع شعبه بان لا شريك حقيقي للسلام في الجانب الفلسطيني ولذلك لا بد من السيطرة كل شبر ارض بين البحر والنهر وفي مقدمتها مدينة القدس العربية.
بعيدا عن الأضواء ألمسلطه هذه الأيام على الأحداث في عالمنا العربي تعمل إسرائيل جهارا على حسم موضوع القدس كمدينة موحدة يهودية وعاصمة أبدية لإسرائيل. كل ذلك يتم من خلال سياسات جديدة في المدينة ومحيطها وعلى رأسها الإسراع في بناء المستوطنات والأحياء اليهودية في المدينة العربية وإقامة البؤر الاستيطانية الشبيهة بالأورام السرطانية في قلب البلدة القديمة وخارج أسوارها. من جهة أخرى تعمل إسرائيل على تقليل عدد السكان الفلسطينيين في المدينة بطرق مختلفة.
عند احتلال مدينة القدس الشرقية كانت مساحة منطقة نفوذ القدس الغربية 38 ألف دونم. ومنذ اللحظة الأولى للاحتلال تم ضم المدينة العربية بأحيائها العربية كلها ومساحتها 6 آلاف دونم لتصبح مساحة القدس ” الموحدة” 44 ألف دونم. عملت حكومة إسرائيل في العقود الماضية على توسيع منطقة نفوذ المدينة من الأراضي العربية المجاورة دون ضم سكان جدد إليها. ولم يتوقف سلخ الأراضي الزراعية من القرى الفلسطينية المجاورة للمدينة العربية لتصبح مساحتها الآن أكثر من 126 ألف دونم يسكنها اليوم حوالي 800 ألف مواطن منهم أكثر من 270 ألفا من العرب.
قبل شهرين أقرت الخارطة الهيكلية لمدينة القدس, هي الأولى للمدينة منذ عام 1959. ويميز هذه الخارطة أنها شملت ودمجت ولأول مره، مدينة القدس العربية في التخطيط الإسرائيلي للقدس “الكبرى”. ولم تعط الخارطة أي حلول تطويرية مستقبلية للأحياء العربية. ويتضح ذلك من الهدف الأسمى لتخطيط المدينة ألا وهو تكريس التفوق الديمغرافي اليهودي في المدينة.
المشاريع الاستيطانية اليهودية في القدس جاءت لتخدم ثلاثة أهداف رئيسية هي: بناء حزام امني – ديمغرافي يهودي حول القدس، أضعاف العلاقة بين المدينة وجوارها الفلسطيني وتقوية مكانة القدس كمدينة يهودية عاصمة للدولة اليهودية. من اجل ذلك اتبعت حكومة إسرائيل بناء المستوطنات ب أربعة دوائر: الدائرة الأولى بناء الأحياء اليهودية على الأرض العربية داخل منطقة نفوذ المدينة، الدائرة الثانية تمثلت باختراق الأحياء العربية نفسها وبناء بؤر استيطانية فيها، واليوم لم يسلم أي حي عربي مقدسي من هذا الاختراق. والدائرة الثالثة متمثلة بإقامة أكثر من سبعين بؤرة استيطانية داخل البلدة القديمة. ويبلغ عدد السكان اليهود داخل أسوار البلدة القديمة حوالي 2500 مستعمر مقابل حوالي 32000 مواطن عربي. أما الدائرة الرابعة فهي عبارة عن غلاف استيطاني واسع خارج منطقة نفوذ المدينة ويبعد عن مركزها بين 10 إلى 30 كم.
الخارطة الهيكلية 2000 أوضحت توجهات المؤسسة الإسرائيلية ونواياها بالنسبة للمدينة المقدسة. فأقرت الخارطة بناء 50 ألف وحدة سكن حتى العام 2020، 20 ألف منها في المراحل الأولى للبناء. ولا تسمح مؤسسات التخطيط بالبناء لأكثر من أربعة طوابق إلا في حالات نادرة. والهدف من ذلك هو التوسع أفقيا وليس عموديا. ولا توجد حالة كهذه في عواصم العالم المختلفة. والأنكى من ذلك أن بلدية القدس ومؤسسات التخطيط رفضت “مخطط صفدي” القاضي بتوسيع مسطح البناء وتطوير “القدس الكبرى” نحو الغرب وأكدت أن توسيع البناء وتطوير المدينة سيكون نحو الشرق فقط، أي على حساب السكان الفلسطينيين في الإحياء العربية.
تغيير الطابع العربي للمدينة المقدسة لا يتوقف على الاستيطان فقط بل يتعداه لتغيير الجغرافيا والرواية التاريخية للمدينة. لأسماء الإحياء السكنية وتغيير فها فحي الشيخ جراح أصبح حي “شمعون هتصديق”. أما سلوان فأصبحت “هشيلوح” وهكذا دواليك. من جهة أخرى تنشط دائرة الآثار وبلدية القدس في حفر الإنفاق ألممتدة من خارج أسوار البلدة القديمة إلى داخلها وبالأساس تحت بيوت الحي الإسلامي. هذه “النشاطات العلمية الأثرية” تأخذ طابع عمليات عسكرية لا يكشف عنها إلا بعد حدوثها.
لقد اعتمدت إسرائيل تاريخيا على السيطرة على أراض عربية من خلال الإعلان عنها مناطق عسكرية مغلقه. وهناك اليوم 12 منطقة عسكرية كهذه ممتدة بين الإحياء العربية أو في داخلها . واليوم تركز بلدية القدس ومؤسسات التخطيط على الإعلان عن مناطق واسعة كمناطق مفتوحة أو مناطق خضراء يخطط لتحريشها وتبلغ مساحة المناطق المفتوحة والخضراء في خارطة القدس 2000 حوالي 35% من مجموع المنطقة المخططة في القدس الشرقية.
إن الإعلان عن إقامة ” الحدائق الوطنية” هو في الصلب السياسة التخطيطية الجديدة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية. هذه الأرض لا تتم مصادرتها من أصحابها الأصليين لكي لا يتم دفع تعويضات عليها، لكنها تتبع لـ” سلطة الحدائق الوطنية ” الإسرائيلية. وكانت ” الحديقة الوطنية” الأولى في محيط البلدة القديمة وبمساحة 1110 دونمات قد تم الإعلان عنها في العام 1974 . وسيتم توسيعها في منطقة سلوان بعد أن تم إقرار الخارطة الهيكلية للقدس 2000. وحسب هذه الخارطة سيتم الإعلان عن حدائق وطنية في أحياء أخرى أكبرها في المنطقة الواقعة على سفوح جبل سكوبس بين الطور والعيسوية بمساحة 750 دونما. ويخطط لـ” حدائق وطنية أخرى في الشيخ جراح على مساحة 120 دونما وفي باب السهرة (جانب متحف روكفلر) على مساحة 40 دونما. كذلك مخطط لإقامة “حديقة وطنية ” في جبل الزيتون على مساحة 467 دونما. ويستعمل الخطاب الديني والحاجة إلى المحافظة على “الحوض المقدس” من اجل شرعنه هذه المخططات.
إن من اخطر المخططات الإسرائيلية لإفراغ المدينة من سكانها العرب هو بناء جدار الفصل العنصري. وبالرغم من أن الدافع لإقامة الجدار هو امني حسب الادعاء الإسرائيلي لكن السبب الأساسي لإقامته هو الهوس الديمغرافي الإسرائيلي حيث تم استثناء إحياء عربية كثيرة من المدينة وتركها وراء الجدار ومنها: أبو ديس، عناتا، كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين وغيرها. والانكى من ذلك أن الخارطة الهيكلية 2000 ادعت إنها لا تستطيع التأثير على الجدار العازل ومساره.
وكان بناء الجدار لا يكفي جاء قرار المحكمة العليا بالمصادقة على قانون المواطنة العنصري الذي يمنع لم شمل العائلات الفلسطينية. في صلب هذا القانون عدم السماح بالمواطنة أو السكن في القدس أو في إسرائيل لكل من هو ليس مواطنا حتى لو كان متزوجا مع من يحمل البطاقة الإسرائيلية. ويتضرر عشرات آلاف الفلسطينيين من هذا القانون.
السياسة الإسرائيلية تنفذها اذرع مختلفة تعمل بتوافق تام تشمل: بلدية القدس، وزارات مختلفة وعلى رأسها وزارات: الداخلية، الإسكان والبناء والقضاء، وجمعيات يهودية ومتطرفة ومنها “عطيرت كوهانيم” و”العاد”، هذه الأذرع تخطط لتكثيف جهودها الاستيطانية في هذا العام ووضعت نصب أعينها تنفيذ تغيير المشهد المقدسي الجغرافي – الديمغرافي والتاريخي لهذه المدينة. في صلب هذا التغيير:
أولا: التنازل عن الإحياء العربية خارج الجدار العازل والتي ستتولى أمورهم الإدارة المدنية الإسرائيلية أو السلطة الفلسطينية. ويهدف ذلك إلى تقليل نسبة سكان مدينة القدس بحيث لا يتعدى الـ 20 بالمائة.
ثانيا: إفراغ البلدة القديمة من سكانها العرب والعمل على تقليل عدد السكان الفلسطينيين داخل الأسوار عن طريق الاقتراح عليهم بدائل سكنية مريحة في الإحياء العربية وخاصة بيت حنينا.
ثالثا: بعد النجاح في إقامة أحياء و بؤر استيطانية يهودية في الجهات الثلاث للبلدة القديمة: من الشمال، الشرق والجنوب، سيتم التركيز في الأعوام القادمة على المنطقة الغربية للبلدة القديمة وبالأساس الحي المعروف بـ” المصرارة العربية” أو منطقة باب العمود.
رابعا: الاستيطان اليهودي في منطقة E1 الممتدة من المدينة إلى الشرق باتجاه المدينة/ مستوطنة معالي ادوميم. وما خطة ترحيل أكثر من 25 ألف مواطن من عرب الجهالين وغيرهم إلا مقدمة لذلك المخطط. حيث يهدف هذا المخطط إلى منع التواصل الجغرافي بين شمالي الضفة الغربية وجنوبها.
خامسا: التركيز على سلوان الحي العربي الأقرب إلى الأقصى وساحة البراق.. هذا الحي العربي والذي يقطنه حوالي 50 ألف نسمه تسكنه اليوم سبعون عائلة يهودية في 15 بؤره استيطانية. وهناك مخطط لتفريغ منطقة البستان وعين الحلوة داخل سلوان وتوسيع ما يسمى ب”عير ًدافيد”.
إسرائيل تستغل انشغال العالم العربي بربيعه والعالم الإسلامي بقضاياه المحلية الكثيرة لتغيير الطابع العربي الإسلامي والمسيحي للمدينة.. أما العالم الديمقراطي المنافق فلا يجرؤ على التحرك ومواجهة إسرائيل في أكثر المناطق حساسية واسخن بؤرة سياسية في العالم.
القدس ستشهد اعنف هجمة استيطانية في السنوات الثلاث القادمة. هذه الهجمة إذا ما نجحت من شانها حسم مصير القدس وإغلاق ملفها كمدينة عربية أو عاصمة عتيدة للدولة الفلسطينية. حان الوقت أن تكون القدس على أجندة الحكومات العربية والإسلامية قبل فوات الأوان. والسؤال كيف يمكن استغلال التغيرات الجارية في العالم العربي من اجل حماية القدس من غول الاستيطان؟ الاستيطان اليهودي في القدس وباقي المناطق المحتلة مناقض للقانون الدولي . ما دام أن مجلس الأمن والمؤسسات الدولية قد نفيا شرعية الاستيطان منذ العام 1980 لماذا لا يطوًر موقف قانوني أكثر حزما في المحافل الدوليةً؟ من جهة أخرى الم يحن الوقت لاجتماع خاص لجامعة الدول العربية لوضع خطة عمل منهجية لحماية القدس وسكانها ودعم صمودهم؟
بقلم د. ثابت أبو راس
مهما يعملوا القدس للمسلمين