بين خوفٍ مِن وخوف على- بقلم: جواد بولس
استفزّني بلاغ سكرتارية المحكمة العليا في صباح الأحد 19.2.2012. ألم يقرأ القاضي ما كتبته له منذ أيام؟ ألم يستوعب أن الأطبّاء يحذّرون ويؤكّدون أن الأسير “خضر” في حالة صحّية حرجة، وأنّه يواجه الموت المفاجئ في كل لحظة وساعة؟. ألم يعرفوا أن القلب الذي هناك على الجرمق، ما زال مصابًا بالوطن؟.
راجعت النائب العسكري، رد بنوعٍ من تفهّمه لحساسية الموقف. عدّل على ما كانت النيابة تقترحه كحلّ من شأنه أن ينهي القضية. (لن أُجهد القارئ بتفاصيل ما جرى بيني وبين الجانب الإسرائيلي، ولكنّني أشير أنّ جميع ما طرحوه من مقترحات استهدف وبنيَ على أساسين اثنين: أن يكون منطلق أي حل هو ما قرّره القضاة العسكريون وذلك لتمكينهم من التشاوف بعدل قضائهم. وثانيًا، أن نوافق على فترة اعتقال إضافية، كانت في بداية الطريق مسقوفة بأربعة شهور وخُفّضت لشهرين، وذلك كي لا يمكّنوا خضر من الإدّعاء بأن صموده أحرز نتيجة وأفضى إلى الإفراج عنه).
خائفًا من الأسوأ، وصلتُ المشفى. خضر في سريره يستقبلني ببسمة تفيض حنانًا وتعبًا، يمدّ يده فتهبط كريشة على راحتي، ألفّها برفق فينساب في داخلي دفء ويتهدّج صدغ، تمامًا كما لو كنتُ على ميعاد مع نرجسة ونجمة. أوجزته بنشرة أخبار شاملة وما حمِّلتُ من شوكٍ وخل وأكاليل غار. سمع مصغيًا كأرزةٍ. نطق إصرارًا وذاب حبًّا ووعدا. محاور حذقٌ دمثٌ. يرفض برقة ويحاجج ببلاغة البرق. متابع لأدقّ التفاصيل، متنبّه كنمر متوجّس، كغزال. قليلًا ما كان يغضب، أما في ذلك الأحد رأيته وقد تشكّل جبينه فصار على هيئة صخرة وعيناه حارتا، تارة حكتا عينيَّ جاحظٍ وتارة صارتا من حلم وسفر، “لا أقبل يا أستاذ ما قرأته في هذه الفتوى. أرفضها جملة وتفصيلًا. فقل لمعطيها أنّ من يقاوم مغتصبَ بلاده وسالبَ حريته وحرية شعبه لا يقوم بفعل الحرام”.
ببطءٍ، وكلام يتساقط بثقل من تعب وعتاب وغضب، أبلغني بلاغ المؤمن الثابت، بعد طول حين تركته على وعدنا القديم وميعاده مع الفجر وموقف الحر. مشيت كأنّني في مركبة من أثير. حولي كانت الأشجار تغنّي بلحن وصوت لم أسمعهما من قبل. طيور بألوان زاهية فريدة تحلّق فوقي وتحط على كتفي بسلام وببهجة. قوس قزح صار في قبضتي. بقوة أخذت ألوِّح به بفرح طفل. كان القوس طويلًا، رأسه بيدي على قمة الجرمق وذيله يهبط بعيدًا بعيدًا.
كم هو بعيد، يا ربي!؟ أفقت. نقرَ على شباك سيّارتي حارس موقف السيارات في المستشفى ارتابَ من غفوتي ومن وجهي الذي كان من نور وقلق وحلم. سألني إن كنتُ في مأزق أو بحاجة لمساعدة. لم أجبه. ببسمة رشيقة وبحاجبين ناطقين طمأنته وبدأت عودتي إلى القدس.
لمست تزايدًا في منسوب الحرج والإرباك في صفوف النيابة العامة والعسكرية، ولمست تزايدًا في منسوب القلق والخوف على صحة وحياة خضر بين أهله وأحبائه وعموم من تفاعل مع قضيّته وتضامن وصلٌى من أجله. وأنا، مع كل لحظة تمر امتلأتُ بكلِّ أسبابِ القلق وبكميات لا أعرف مصدرها من “الأدرينالين” والإصرار والنشاط. قدّرتُ أنّهم مربكون ويخشون من خضر “الشهيد” وما قد تسببه هذه المأساة من تداعيات ونتائج. لم أيأس. موجات التضامن تتصاعد والأصوات من كل حدب وصوب تتعالى، وخضر أقنع من راهن على إرادته أنّه هناك ثابت ثبات القاف في الجرمق.
يوم الاثنين مساءً تبلغني سكرتارية المحكمة العليا أن القضاة قبلوا طلبي المستعجل وقدموا موعد الجلسة بيومين وبدَّلوا موعد الجلسة من الخميس إلى الثلاثاء 21.2.2012. اتّصالاتٌ مكثّفة تستمر حتى الساعة التاسعة ليلًا. النيابة وبعد ضغوط شديدة توافق على الالتزام بعدم تجديد الأمر الإداري القائم ولا توافق على تخفيض الثلاثة أسابيع.
أشعر أن حالة خضر خطيرة للغاية لأنهم أصروا أن أسافر إلى صفد في تلك الليلة. خائفًا وعلى نصل الأمنية وبمساعدة المضحّية المناوبة بجانبي، وصلنا صفد الساعة الواحدة من فجر الثلاثاء. ثلاثة سجّانين يحرسون الجسد ويجهلون أن قلبه، في الساحات والميادين في فلسطين وأبعد، ينبض حبّا ووعدًا.
يفيق من نومه فيراني شاخصًا أمامه. أخبره بأن الجلسة ستنعقد اليوم وأخبره بما وافقوا وما لم يوافقوا عليه. وأن نائب رئيس المستشفى أخبرني للتو بخطورة وضعه وبنتائج التحاليل المخبرية من نفس اليوم. أنقل له خوفي على حياته وخوف كل من عرفه ومن تعرّف عليه. سمعني كخضر الذي عرفته ورفض كخضر الذي أعرفه، وأصر على تخفيض الأسابيع تلك. من هناك أبلغت النيابة برفضه، أحسستُ بغضبهم وخيبتهم تتدفق في أذني. لم نتفق. في الفجر غادرته وأبقيت قلبي عنده عساه ينفع.
لم تنقطع اتصالاتي معهم. في الثانية ظهرًا، قبل ساعة من الجلسة، أخبرتني النائبة أن “الدولة” قبلت شرطنا. ستخفَّض فترة الأسابيع الثلاثة وستلتزم الدولة بعدم تجديد الأمر الحالي ولذا سيفرج عن خضر يوم 17.4.2012، الذي يصادف “يوم الأسير الفلسطيني” .
لقد خفتُ على حياة خضر فقبلت. وهم خافوا من موت/شهادة خضر فقبلوا. أخبرته من بعيد فسمعت الأشجار هناك تغني بذاك اللحن، وأحسست كذلك بتلك الطيور تحط على كتفي وكتفه. سمعت النشيد ينساب كهمسات الليل ويسأل “كيف محوت هذا الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح وبين البندقية والغزالة”، يا خضر، الذي من ريح ومن سكَّر، لـ”إنَّ التشابه للرمال وأنت للأزرق”.