“يوميات” محمود درويش كقناع لقصيدة النثر
يقول سقراط لفيدروس في “المحاورات”: هل تعرف يا فيدروس أنّ العجيب في الكتابة هو أنها تشبه الرسم إلى حد بعيد؟ إن عمل الرسام يطالعنا كما لو أن اللوحات حيّة تنطق، إلا أنك عندما تستجوبها تحافظ على صمت أزلي. ينطبق هذا على الكلمات المكتوبة: تبدو أنها تتحدث إليك، كما لو أنها ذكية للغاية، إلا أنك عندما تسألها، والرغبة تحدوك في معرفة المزيد، تستمرّ في ترديد وترديد نفس الأشياء دون انقطاع.
الكتابة عند سقراط، بهذا المعنى، ليست سوى كلمات تتطابق فيها العلامات والمعاني بدقة متناهية، أما التفسيرات والملاحظات والتعليقات والتداعيات والمعاني الرمزية فلا تنطلق كلها من النصِّ ذاته، وإنما من قارئ النص!
هكذا يعلّق أحد أشهر قارئي الكتب: ألبرتو مانغويل، أو من يشبهه، في هوس تعقب مسارات العلاقة بين الكتاب-النص-المطبوع من جهة، والطرف الآخر من معادلة التلقي من جهة أخرى، على ما يحدث بعد أن تدفع المطبعة بكتاب ما إلى فضاء التداول العام، أي بعد أن تصبح الكلمات جسوما (رسوما) هامدة بين دفتي كتاب.
هذه المعادلة السحرية التي لا يعرف منشئ النص كيف تشتغل وفي أي ظروف وأي استنتاجات، بل أي استجابات، يخرج بها قارئ يستحيل أن يتطابق، معرفة ومشاغل وذوقا وظرفا نفسيا، ومنشئ النص. كأنّ النصّ يحيا، بهذا المعنى، أكثر من حياة: حياته الأولى في كنف منشئه، بما أظهره النصّ وما أبطنه، وتلك التي يكتسبها (أولا يفعل!) مع قراء قد يؤكدون ما فيه وقد يسبغون عليه ما ليس فيه.
أعود اليوم، في ضوء اقتباسي لسقراط، إلى كتاب لمحمود درويش سبق لي أن تناولته حال صدوره، مباشرة، وهو “أثر الفراشة” الذي رأيت فيه محاولة “جدية” من درويش لكتابة قصيدة نثر ولكن من دون أن يسمي ذلك، متخذا قناع “اليوميات” كدريئة لأسباب تخصُّ رهاناته على “الوزن” ورهانات جمهوره عليه.. هنا محاولة للبرهنة على ما ذهبت إليه.
بعد الغلاف الرئيسي الذي يطالعنا عليه عنوان فرعيّ، أو تجنيسٌ للكتاب بعنوان “يوميات”، نقلِّب صفحات مخصّصة للناشر، واحدة منها تحمل عنوان الكتاب مترجما إلى الإنجليزية وتحته تجنيس الكتاب بالإنجليزية ينصُّ على أنه “يوميات” أيضا، ثم سنة الإصدار وحقوق الطبع والنشر واسم مصمم الغلاف، يليها فهرس الكتاب.
أول كلمات نقرؤها لمحمود درويش في الصفحة 16، تقع بين مزدوجين كبيرين تقول بالحرف: صفحات مختارة من يوميات، كُتبت بين صيف 2006 وصيف 2007. هذه الكلمات لا يمكن أن تكون من وضع الناشر الذي يصعب أن يعرف أن هذه الصفحات اختيرت من يوميات عديدة كُتبت بين صيفين.
على الشاعر أن يقول له هذا، أو أن يخطَّه بيده. فليس من حق الناشر أن يحدِّد ما الذي يختاره من “يوميات” الشاعر فضلاً عن انعدام حقِّه، في حالة النشر العربية على الأقل، تحديد جنس العمل نفسه وتصنيفه بالتالي في نوعٍ كتابيّ بعينه. هذه الكلمات في مستهل “أثر الفراشة” خبرٌ من لدن الشاعر نفسه الذي قرَّر أن يقتطف هذه “اليوميات” من سياق أطول. إنَّه هو (الشاعر) الذي يقوم بالاصطفاء والتجنيس.
بماذا يفيدنا هذا الخبر؟ إنه يقول لنا إن الشاعر يدأب على كتابة “يوميات”، وإنّ ما نقرؤه، هنا، ليست كل “اليوميات” التي كتبها بين صيفي 2006 و2007 بل صفحات مختارة منها. والحال أننا نعرف أن درويش كان من أكثر الشعراء العرب انكبابا على كتابة الشعر وانقطاعا له من دون غيره.
نشاطه الكتابيّ كله، تقريبا منصب على الشعر. فعندما نراجع قائمة أعمال درويش المنشورة نجد أنها تقع كلها، تقريبا، في بابين: الشعر والمقالات، فضلاً عن عملين سرديين: واحد عن حصار بيروت بعنوان “ذاكرة للنسيان”، وآخر في السيرة الذاتية المواربة بعنوان “في حضرة الغياب”، لكننا لا نقع، البتة، على أعمال منشورة في كتب تحمل اسم “يوميات”.
لو أخذنا أدونيس، في المقابل، سنجد أن قائمة أعماله مختلفة عن قائمة أعمال درويش في جانبٍ طبع شطرا كبيرا من نتاج صاحب “مهيار الدمشقي”، ألا وهو البحث أو التنظير ذو الطابع الفكري. فعندما نقرأ كتاباً لأدونيس بعنوان “الصوفية والسيريالية” لا يبدو لنا نافرا في قائمة أعمال الشاعر، إذ إن هناك أعمالا أخرى له يمكن وضعها في الخزانة نفسها: “الثابت والمتحوّل” في أجزائه الأربعة، “النظام والكلام”، “زمن الشعر”، “سياسة الشعر”، “كلام البدايات” وغير ذلك.
هذا، إذن، كتاب مثله كتب كثيرة لأدونيس من حيث الجنس، ولكن ليس لمحمود درويش أعمال في باب “اليوميات”. هذا من حيث النوع الكتابيّ فقط، أما من حيث المحتوى الذي ينطوي عليه الكتاب “أثر الفراشة” فلا نجد “يوميات” بالمعنى المتعارف عليه.
فما هي “اليوميات” بمعناها الاصطلاحي؟ إنها سجل (مكتوب، بالأصل، بخط اليد) مع مداخل منفصلة مرتَّبة حسب تاريخ الإبلاغ عما حدث على مدى يوم أو فترة زمنية معينة. ويجوز للمذكرات الشخصية أن تشمل تجارب الشخص اليومية أو أن تتضمن لمحات من أفكاره أو مشاعره، بما في ذلك تعليقه على الأحداث الجارية خارج تجربة الكاتب مباشرة.
ويعرف الشخص الذي يدأب على تسطير هذا النوع من الكتابة باعتباره كاتب اليوميات. يشير المصطلح عموما إلى نوع من المذكرات الشخصية التي يقصد بها أن تظل في حوزة الشخص نفسه أو أن يجري تداولها بين عدد محدود من الأصدقاء أو الأقارب.
هذا تعريف سريع لليوميات كما جاء في “الموسوعة الحرَّة” بالإنجليزية، وهو لا ينسى أن يشير إلى علاقة اليوميات بدهاليز العمل الحكومي، أو المؤسسيّ عموما، وصلتها بالأحداث السياسية والرحلة والحروب وغير ذلك من النشاط البشري. فهل ينطبق ذلك على “أثر الفراشة”؟
جوابي، أنَّه لا ينطبق عليه تماماً. فأول مادة في الكتاب هي قطعة شعرية موزونة بعنوان “البنت/ الصرخة”. وعندما نقرأ هذه القصيدة القصيرة نعرف أنها عن الطفلة الفلسطينية “هدى غالية” التي هزّت العالم وهي تبكي بالقرب من جثث سبعة من أفراد عائلتها أودت بحياتهم قذائف إسرائيلية عندما كانوا “يتنزَّهون” على شاطئ غزة.
يبدأ “أثر الفراشة”، إذن، من حدث فلسطيني (مجزرة)، لكنّ النص ليس يومية تؤرخ أو تعلِّق على المجزرة التي أشاعت خبرها الصاعق -على نطاق واسع- صرخات “هدى”، بل قصيدة تستجيب للصرخة، للألم، للخبر العاجل الذي لم يعامل دوليا كخبرٍ عاجلٍ من فرط التكرار أو إدارة الظهر وتبلُّد الحواس.
وتلي قصيدة “البنت/الصرخة” قطعة نثرية بعنوان “ذباب أخضر” تشكل استطراداً، أو تنويعاً على “مادة” القصيدة الأولى. اللغة المكثَّفة، المجاز، السرد المختزل، تدَافُع الجمل وتنضيدها، طباعياً، في سطور طويلة تعطي القطعة ملمحاً من قصيدة النثر ذات المنشأ الفرنسي. إنها ليست شرحاً ولا تعليقاً على مجزرة شاطئ غزة، إذ ليست هناك إشارة لهذا “المعطى العام” ولا تفاصيل توضح علاقة القطعة بخبر المجزرة، وإنما استبطانٌ، تمثُّلٌ لـ”الواقعة” وإعادة إنتاجها على نحو يسمح بإعطائها طابع العموم.
إنها نوع من “التحويل الشعري” للواقع. لكنَّ القطعة التي تلي “ذباب أخضر” وتحمل عنوان “كقصيدة نثرية” تشي بما يضمره الكتاب من تجنيس خفيٍّ، تجنيس يناقض العنوان الفرعي للكتاب: يوميات.
لم تكن صدفة ولا شطحة قلم أن يتسلل، قصدا أو من دون قصد، “هاجس” قصيدة النثر إلى هذا الكتاب. فقصيدة النثر كانت تحوم، أغلب الظن، في فضاء الشاعر، تشغله، يقرؤها عند عدد متزايد من الشعراء، يتابع السجال حولها ويسجل ملاحظاته عليه. وها هي أخيرا تتسلل إلى ثنايا الكتاب وتتخذ لنفسها وصفاً يدلُّ عليها، أو يشير إليها ولو من بعيد.
وإذا عرفنا أن درويش كانت له مواقف ذات نبرة سلبية حيال قصيدة النثر حتى وإن مال في سنيِّه الأخيرة إلى “تلطيف” هذه النبرة والتخفيف منها، نفهم أنَّه لم يكن سهلاً عليه أن يجعلها -باسمها الصريح- جزءا من مدونته الشعرية، رغم إقراره بـ”شرعيتها الجمالية” واعتبارها مكوّنا من مكوِّنات الشعر العربي الحديث.
ويذهب أكثر من ناقد أدبي عربي، من بينهم صبحي حديدي، إلى اعتبار “مزاميره” (أحبّك أو لا أحبّك 1972) ممارسة مبكرة لقصيدة النثر، لكني لا أميل هذا الميل لأن تلك “المزامير” أقرب إلى النثر الشعري منه إلى قصيدة النثر التي هي جنس أدبي قائم بذاته، ليس شعراً منثوراً ولا مسترسلاً ولا شعرا خاليا من الوزن والقافية على غرار صنيع الماغوط ومعظم ما يُكتب، عربيا، تحت يافطة قصيدة النثر.
قصيدة النثر شيء مختلف عن النثر الشعري، نجد عند درويش الكثير من النثر ذي الجنوح الشعري ولكنه ليس قصيدة نثر. أقرب محاولة غير مسمّاة لدرويش على هذا الصعيد -في رأيي- هو كتاب “أثر الفراشة”.
ليس كله بالطبع لأن هناك قصائد تفعيلية تعمل كفواصل بين “القطع” النثرية، أضرت بوحدة الكتاب وشتَّت تجنيسه قصداً أو من دون قصد، غير أن قناع “اليوميات” الذي جعله عنواناً فرعياً للكتاب لم يصمد في “تضليله” الإجناسي طويلاً عندي.. فمعظم “قطعه” النثرية لها هيئة واشتغالات ومقاصد قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي للمصطلح.. وأغلب الظن أن هذا ما أراده درويش من دون أن يتورط في التصريح به.