لا يمكن لشعب أن يغضب إلا وتكون أسباب غضبه قد بلغت حدودها القصوى من تحمل المظالم. وفي علم الثورات الشعبية يلعب الغضب دور المنتج الأول للقوة التي كان يفتقر إليها كل مظلوم.
فالغضب يوحد المظلومين ليكتشفوا أنهم قادرون على دفع الظلم. لكن المشكلة في الغضب الجمهوري أنه محتاج إلى الإثارة الدائمة. وهذا ما يوفره له عادة غباءُ الظالمين، إذ يضاعفون العسف والتجبّر، وقد يفرطون في أساليب القمع، حتى تتحقق الهوة الكبرى بينهم كأقلية صغيرة ضد أقلية ساحقة. وعند ذلك يستحيل بقاء الطرفين معاً، لا بد أن يزول أحدهما، وبالطبع لن تزول هذه الأكثرية، أي الشعب.
من هنا يسود المبدأ القائل أن الثورة قد تقضي على عدوها المباشر لكنها ستولد أو تُظهِّر أعداءها الداخليين، من بين صفوفها عينها، أو ممن هم وراء ظهرها. والتجربة العربية الراهنة تبرز هذا الجانبَ الآخر من الثورات التي أنجزت إطاحة بعض رؤوس ظالميها من هيكل السلطة، لكن السلطة الأخفى لأعدائها هي التي تتسلم حركية الإجهاض والغدر المنظم لأسس كل ثورة شعبية كانت صادقة مع نفسها لدرجة العفوية الساذجة أحياناً.
العالم العربي يمور بأسباب الغضب الإنساني المشروع، وقد كان وعاش دهراً طويلاً من الخمود والهمود. فهل أصبح كل شيء في حياته العامة مهتزاً ومزعزعاً ويوشك على الانهيار.
ليست موجات الغضب العاصفة بالسلطات القائمة سوى مداخل صاخبة لعصر آخر قادم، لا يمكن منذ الآن تحديدُ معالمه، لكنه لن يكون تكراراً بليداً لأوضاعه السابقة، بل الخطيرُ في هذا الموضوع هو أن عالم ما بعد الثورة لم يُفكَّر به بعد. والنخب الواعية لم تتحدث عن مستقبل إيجابي قابل لصناعة العقل العربي الجديد. فقد بلغ مركّب الاستبداد/الفساد حدَّ اعتقاد الناس بكونه نهايةَ السياسة والاجتماع. ما كان لمفكر أن يسمح لمخياله بالحديث عن ‘مدينة فاضلة’ عربية للعصر القادم. ذلك تخطَّى الحلم إلى حد الخرافة. ومع ذلك فقد تفاجئنا الطوبائية، وتقترح علينا أن نتعامل معها كحقيقة قابلة للتحقق. من كان يتوقّع الثورة، وأن تأتي بأسلوبها الراهن الذي لم تنص عليه نظرية جاهزة. فمن المؤسف أن بعض النخب يعيبون على الربيع العربي أنه أتى غيرَ محمولٍ على أكتاف إيديولوجيا معينة سابقاً، إنه يقدم ثوراته بدون نظريات. ونحن نقول إلى هؤلاء أن فجاءته العظيمة أنه أتى بالثورة التي هي حرة أصلاً من كل أدلجة حصرية، لكي تبشر بالحرية البريئة من كل استخدام أو توظيف سابق على أفعالها.
ثورة الحرية ما قيمتها التاريخية إن لم تكن حرة في ذاتها. واليسار العربي الجديد حقاً، يطمح أن يكون هو المسؤول أولاً عن حماية هذه الثورة من كل محاولة في اختطافها نحو أية أيديولوجيا أو أي مذهب أو طبقة أو حزب. فالمهم ألا تجرّ معاني الثورة للتقوقع تحت المصطلحات البالية. وليس أتعس من العودة إلى نقاشات غابرة بين جبهات لفظوية وذلك عندما كان بعض المثقفين يعوضون عن الافتقار إلى قوة التأثير في الواقع السياسي والاجتماعي حولهم، باختراع شراذم الكليشيهات المتضادة، ليتباروا فيما بينهم حول فروسية السيوف الخشبية، التي يخترعونها بألسنتهم أو أقوالهم وحدها.
نريد القول أنه إذا كان ثمة يسار عربي حقيقي، فهو الذي سيولد مع هذه الثورة من رحمها بالذات. من زواجها الشرعي مع الشارع الجمهوري، تلك هي الوحدة الطبيعية العضوانية التي افتقدتها طويلاً حركاتُ التمذهب اللفظوي التي غطت ثورات النكسات القومية والعسكرية، دون أن تنجح ولو مرةً واحدة، سواء في توقعها للنكسات قبل الحدوث، أو في محاولة تلافي نتائجها المدمرة التي راحت تغتصب أعمق دوافع النهضة إنسانياً، وهي ثقة النهضة بذاتها، وإعادتها لكتابة تاريخ أمتها محرراً من كل أسباب انحطاطه ومظالمه المستديمة، لهذا ينبغي لليسار القديم أو (فلوله) أن يعترف بكل صدق وأمانة أنه لم يعد صالحاً لفهم المايحدث العربي الراهن، وأن أدواته التقليدية لن تلتقط من هذا الحدث إلا بعض مظاهره الخاطئة أو المنحرفة، لكي تدعم بعض مناهجها الجاهزة.
فما هو الفارق بين هذا اليسار واليمين التقليدي إن اجتمعا على الادعاء الواحد الذي ينفي أصالة الربيع العربي، كونه إنجازاً صاعداً من عمق إنسانية الإنسان، رفضاً لمهانة العسف والطغيان، وانتماءً لكرامة الحق والحرية. وهي الحالة الفريدة التي أعطت الربيع العربي قابلية تجاوب العالم الشعبي والثقافي مع معانيه، واعتباره كما لو كان انجازاً مشروعاً لكل المضطهدين في عصر أفول أكاذيب حضارة العنف، إيديولوجيا الرأسمالية الفاقدة اليوم لأهم قواها السلطوية، وهي قدرتها الفائقة على التضليل العقلي والوجداني؛ وذلك بتعليب المعرفة الزائفة، وجعلها أخطر وسيلة إعلامية لضياع ثقافة الحقيقة من الشأن العام.
هل ينبغي لليسار المؤدلج أن يسحب أجهزته المعرفية البالية من سوق النقاش الثقافوي. هل ينبغي له أن يرى إلى حالته من خلال المرآة الشاملة بين من ثارت عليهم (الثورة) من كل الآخرين من رموز الشتاء العربي، ذلك اليسار لم يعد سوى شريحة مهزومة من بين الشرائح الأخرى من فعلاء الماضي البائس الذي ما يزال حاضراً، لكنه يظلّ حالماً بانبعاثات شاحبة ما بعد الموت السريري والفعلي معاً.
ومع ذلك فإن هذا الربيع لا يمكنه أن يأتي بموسم ثماره إن لم تنضجها أشجار حية ذات جذور راسخة في عميق التربة الوطنية والإنسانية لأمة تظل حية حتى مابعد جموديات الشتاء، التي غطت حقولَها ومُدنها دهراً طويلاً. فمن هذه الحقيقة البدئية سوف تتكون بذرة يسار آخر، لا يمكن لأحد أن يدعي مقدماً صبَّ تمثالٍ فكروي أو منهجي له، من دون أن يثبت عضويته الصادقة في شوارع الثورة اليومية. فكل منطلق لفهم الحدث العام ينبغي له أن يكون حَدَثياً من طبيعته عينها، بمعنى أن كل فلسفة للحرية عليها أن تتطهّر أولاً من كل الأوامر الخفية أو الظاهرة المتصدية لراهنية الواقع المختلف. فكل ثورة شعبية مستديمة لها خصوصيتها بقدر ما هي قابلة للمفهمة من قبل عقول العامة والخاصة معاً، وتلك هي صناعةُ امتيازها التي تفرض التعامل المختلف مع معطياتها.
قد يكون أعلى عناوين الربيع العربي أنه يمنح لثوراته فرصة جديدة عظيمة في أن تكون ثوراتٍ للتحرير السياسي والتنوير النهضوي في وقت واحد. فإذا كان يسارنا الصاعد باحثاً عن منطلقه المبدئي، فلتكن هديته لذاته أولاً هي النهوض بأعباء ثقافة التنوير، بعد أن مارس ‘الفكر العربي’ أساليب المراوغة مع هذه الثقافة طيلة حقب الثوريات الفوقية العابرة. فقد أضاعت النهضتان الأولى والثانية فرصاً رائعة في اختراق حصارات القمع العقائدي. كانت تتهيّب المواجهات الصريحة المباشرة مع حراس هذا القمع، إذ كانت لا تملك البدائل الجديرة بوراثة الأوهام الشعبوية المتغلغلة في تفاصيل المعيش اليومي للجماعيات والفرديات وفي الوقت عينه لم تكن تعبأ بالحقيقة القائلة، أنه لا جدوى من اختراق نضال سياسي دون أن يؤصِّله ويرافقه نضالٌ تنويري. والتنوير هنا هو على طرف نقيض من أساليب الدعاية والتعبئة الشعارية المألوفة، التي دأبت على الاستغراق في وحولها مذهبياتُ التحزّبات اليساروية، السارية المفعول حتى أيام الربيع الراهن، فهي لا تريد أن تتخلى عن مفاتيح الفهم والتحليل الصدئة.
سوف تظل أبواب الواقع مغلقة في وجهها إن لم تخترع مفاتيح من جنس المشكلات التي تفجّرها سردياتُ الثورات الدموية والسلمية معاً. وعليها أن تشرع في ذلك، قبل أن يطرأ عليها التنميط والتحوير من عوامل التدخل الخارجي في شئونها، وتحميلها شعارات معكوسة تماماً عن أهدافها الأصلية.
من طبيعة كل ثورة أنها تطرح عنصر القوة كعامل رئيسي ومحوري في نجاحها أو فشلها، ورغم أن الغضب الشعبي المشروع هو وقود الثورة، إلا أنه يحتاج سريعاً لنوع من عقلنة التنظيم المتحكّم في منطقه نظرياً وعملياً معاً. وتلك هي المهمة الافتتاحية لفكر يساري حار مشارك ومصاحب ليوميات الحدث الثوري، يشتغل من داخله وليس من هوامشه أو ضواحيه البعيدة، وحتى القريبة. فقد لا يضيف هذا اليسار على قوة الشارع قوة أخرى. بقدر ما يجعل قدرة الشارع واعية لتجاربها اليومية، وأصعبها ولا شك، وهو استنباط مؤونة متجددة لذخيرة الصمود الإنساني، كأصل للصمود النضالي، كالحال في الربيع السوري مثلاً الذي يواجه كل ساعة أوحش وحوش البطش كلها، إذ يصبح الصمود هو القلب الذي يضخ دماء الحياة والوجود، مبقياً على ديمومة الحراك الثوري. منتصراً على مختلف الفجائع والخسائر البشرية والمدنية التي يلحقها به عدو فاقت فظاعاتُه كلَّ أمثالها البربرية.
من كنز هذا الصمود الاستثنائي ينبغي للتنوير النهضوي أن يشتق حروفية أبجديته الأولى، جاعلاً من النهضة ذاتها امتداداً اجتماعياً وحضارياً لثورة عقلانية تتسلح بأدوات النقد المعرفي، تمارسه في سلوكها هي مبدئياً، قبل أن يكون موجهاً فحسب إلى تحولات السياسة مفصولةً عن حواملها البشرية الفعالة، التي هي الجماهير في كل شأن عمومي.
هذا لا يعني. وفي النموذج السوري تحديداً، أن الصمود تحول إلى أسطورة، بقدر ما إن أيديولوجيا الصمود المتداولة في سرديات اليسار القديم، قد عفت عليها ثورة الصمود الحقيقية أخيراً. هذا المنعطف يتطلب إعادة نظر شاملة لا يمكن لأية تأويلات طبقوية أو قوموية أن تلتقط دلالاته بيسر وسهولة.
حتى أن مفهوم (الكتلة) قد يحرم قوى الشعب الثائرة من مؤونة الانفعال بإنسانيتها أولاً. هذا هو السر الأعمق لمصطلح ثورة الحرية، عندما لا يمكن لأي تعريف أن يختزله، بل هو الذي يختزل التعريفات الجاهزة، ويدفع بالطلائع، غير المعروفة بعد، من ثوار القاعدة، إلى المحافظة على مبدئية الفعل قبل البحث عن تسمية مصطلحه.
قد يعتقد بعض الفكر الماركسوي، على الطريقة العربية القديمة، أنه إذا لم تكن الثورة طبقية في أسبابها، وفي محصلة نجاحها، فإنها سوف تصبّ في صالح أعدائها الطبقيين هم كذلك. هذه الحلقة المفرغة من تدوير المصطلح الواحد حول نفسه، من زوايا مختلفة، قد عفا عليها فكرُ الحياة اليومية المتجددة التي لا تعرف حدوداً مرسومة، وتظل أقرب إلى منطق صُدَف التاريخ، أكثر من أن تكون من حتمياته المفروضة على ثقافة ما فوق صيرورته الذاتية، لعلّ الربيع العربي سوف يُتحفنا بظاهرة عصرية، لن تنفع في فهمها وتحليلها والبناء عليها أيةُ منظومةٍ نظريةٍ جديدة، إن لم تتسلح بالبراءة العقلانية قبل أية نزعة تنميط أو تأطير يجعل المضمون خادماً للشكل المفروض، وليس العكس.
قد يكون العقل العربي هو المكلّف قبل كل عقل آخر، بأن يشرع في تنويره لأهم ما حدث لشعوبه في هذا العصر، أن يكتشف حريته الذهنية وهو يتعايش مع إنجازات ثورة مهددة ليست بأحابيل الخطف والتحريف السياسوي فحسب، ولكن بما هو أشد تشويهاً لحقائقها، عندما يجعل البعضُ من حطام الشتاء الماضي أبنيةً شوهاء لحصار مواسم الربيع الوليد.