كيف أصبح يوم إحياء ذكرى النكبة يوم الاحتفال بإنهاء لأسرى لإضرابهم بعد أن حققوا كل إنجازاتهم ؟ وهل كان ذلك مصادفة؟فمساء اليوم السابق للخامس عشر من أيار وقبل ساعات فقط من دخوله كانت مساجد قطاع غزة تكبر فرحا بانتصار الأسرى وقد كانت هذه المساجد في مثل هذا اليوم من الأعوام السابقة تدعو لشد الرحال بأقصى الطاقات لإحياء الذكرى الأليمة …!
العام الماضي والذي أحيا فيه الفلسطينيون كان بمثابة صدمة للمؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية حين فاجأتهم جماهير الشتات الفلسطيني لأول مرة بالزحف نحو الحدود وتمكن بعضهم من اختراقها في الجولان المحتل وكان لهذه الصدمة وقعها للعديد من الأسباب منها أنه ولأول مرة تتحرك كل جماهير الشعب الفلسطيني وتخوض معركتها ككتلة موحدة في الداخل والخارج من غزة إلى قلنديا وبلاطة واليرموك وشاتيلا وهذا لم تعهده إسرائيل التي حاربتهم في الخارج خلال عقود سابقة ثم انتقل الصراع بعد حرب 82 بين إسرائيل وفلسطيني الداخل ليتحول فلسطينيو الشتات إلى حالة حياد، أما الثانية أن ذكرى العام الماضي والشكل الذي تحرك به الفلسطينيون هو أسلوب جديد استلهموه من الزلزال الذي هز المنطقة وجاء وسط الربيع العربي والذي أثبت أن حركة الشعوب أقوى كثيرا من أعتى الجيوش والأسلحة ولأن إسرائيل جهزت قوتها منذ أقيمت لحروب كلاسيكية جندي مقابل جندي ودبابة مقابل دبابة وطائرة تغير وتعود بالنصر ،لكن هذا الشكل من المواجهة كان مربكا لها وكانت التقييمات تذهب باتجاه الخوف من اليوم الأسود الذي ستتحرك فيه الجماهير الفلسطينية زحفا لتطبق على إسرائيل كما قال أحد الحاخامات اليهود في فيلم قصير على اليوتيوب يتداوله الشباب الفلسطيني على الفيس بوك.
أما الأسوأ بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية قناعتها أن ذلك اليوم من العام الماضي لم يكن سوى بروفة صغيرة لما هو قادم من كابوس آت لا محالة وكانت التقييمات الإسرائيلية تشير إلى صعوبة وعجز المؤسسة العسكرية عن هذه المواجهة الكبرى وإن بدأت منذ يومها إسرائيل بالتحضير والتدريب واستخلاص العبر مما حدث والتحضير للقادم فقامت بشراء معدات مواجهة منها مدافع تطلق صوت صفير لا يمكن احتماله وتدفع الفرد للهروب من المكان ومدافع تطلق روائح كريهة لا يمكن التخلص منها مهما اغتسل الفرد وكذلك أسلاك شائكة تمتد أفقيا على مساحة واسعة خلف بعضها إذا تمكن الغاضبون من اقتحام الأول فهناك الثاني والثالث والخامس .. كل ذلك كان تحضيرا للخامس عشر من مايو 2012 فماذا حصل في هذا اليوم ؟
الجماهير التي كان يجب أن تتحرك غاضبة وتندفع كسيول تجرف في طريقها ما يواجهها كانت تحتفل بفرج الانتصار وربما كان هذا اليوم الأكثر هدوء لإسرائيل في هذه المناسبة فالإعلام الفلسطيني كان في واد آخر والفصائل الفلسطينية أفاقت بعد نهاية اليوم المفترض للتصعيد الأكبر الجميع كانوا سكارى بخمر انتصار الأسرى واكتشف الجميع بعد فوات الأوان أنه لم تشكل اللجان التي تعمل كما كل عام لإحياء الذكرى ولم يتم التحضير ولم تدعي لاجتماع واحد ولم يتم تعبئة الرأي العام كما السابق ، مر هذا اليوم مرور الكرام وبعده فقط بدأت الدعوات الخجولة للندوات وورش العمل في محاولة لتعويض هذا القصور الوطني الأكبر.
إسرائيل كانت تعرف بالضبط ماذا تريد والفلسطينيون فقط لم ينتبهوا أنه في ذروة الانشغال بالأسرى أسقطوا واجبهم السنوي وظهروا كأنهم لا يستطيعون حمل ملفين “إما الأسرى أو النكبة” ، وهنا ظهر بوضوح مستوى الدهاء والمكر الإسرائيلي الذي يقود السياسة والذي ظل يماطل في مفاوضات الإضراب عن الطعام وأنهى المسألة قبل ساعات فقط من دخول يوم النكبة بحيث لم يبق للفلسطينيين البسطاء فرصة حتى للدعوة لمسيرة وظهر أيضا مستوى البراءة الفلسطينية حد السذاجة والتي تطرح أسئلة كبيرة على قدرة الفلسطينيون على إدارة صراعهم أمام خصم مدجج بالدهاء السياسي وهذا النموذج فيما حصل في يوم النكبة يصلح للقياس.
السياسة لا تحتمل البراءة والسذاجة وتجارب التاريخ تقول أن الذي قاد معاركه بدهاء انتصر وقيل قديما أن “الحرب خدعة” والفلسطينيون يخوضون أشرس حروبهم وبكل التفاصيل والسياسة تحتاج قدر كبير من الذكاء والقدرة على قراءة واستغلال الأحداث في اللحظة المناسبة وهناك في حركة التاريخ ما يطلق عليه ” اللحظة التاريخية ” التي ينبغي التقاطها وعدم تركها تفلت في لحظة معينة كما قال أحد المفكرين الثوريين ” بالأمس مبكرا وغدا متأخرا ” والمثال الأبرز لأكثر الساسة مكرا في التاريخ هو أمير قشتالة ” فرديناند ” والذي روى ميكافيلي سيرة حياته في الكتاب الشهير الذي حمل عنوان ” الأمير”، ما عرف عن ذلك الكتاب فقط هي مقولة ” الغاية تبرر الوسيلة ” وذلك الأمير كان يترأس إمارة صغيرة في إسبانيا تزوج من إيزابيلا أميرة “أرجون” ليوحد الإمارتين ويشكل جيش متقدما لينهي الوجود الإسلامي في الأندلس ثم ينشئ إمبراطورية ضخمة كان لها سبق اكتشاف أميركا واحتلالها حين مول شخصيا رحلة كريستوف كولومبس لتتحول إسبانيا منذ عهده من أقاليم صغيرة متناثرة إلى واحدة من أهم الإمبراطوريات في التاريخ وليضع شعبه في مقدمة الشعوب العظمى هذا الأمير كان يتعامل مع خصومه بمكر شديد ولا زالت جملته الأخطر التي قالها درسا لكل السياسيين الذين يخوضون معارك مع أعدائهم حين قال في إحدى خطاباته ” إن ملك فرنسا يكذب إنه يقول أنني كذبت عليه ثلاث مرات أنا أقول أنه يكذب فأنا كذبت عليه عشر مرات “.
في التاريخ الإسلامي كان الداهية عمرو بن العاص الذي فتح مصر وفي التاريخ الفلسطيني صنف ياسر عرفات كداهية وقد وصفه الإسرائيليون مرارا بالكاذب وهذا الأخير استطاع بدهائه أن يصنع الكثير لشعبه وينقل قضيتهم للمستوى الدولي ويحولها من قضية إنسانية إلى سياسية ،فالسياسة تحتاج إلى الأكثر دهاء والصراعات لا يجيدها إلا الأكثر مكرا وإسرائيل لديها مخزون هائل من هؤلاء موزعون على قيادة الأحزاب كصناع قرار ومستشارين ومراكز الفكر ونحن لدينا قدر كبير من البراءة حد السذاجة ومن الواضح أن السنوات الأخيرة تشهد خللا هائلا في الحنكة لإدارة الصراع فقد حققت إسرائيل معظم مشاريعها ،فحين كانت تبني الجدار في الضفة والذي كان من الصعب دون مبررات العمليات الاستشهادية وقد اتضح انه الحدود السياسية للتسوية وليس لأسباب أمنية وحين شارفت على نهايته اقتنع الفلسطينيون بضرورة وقفها، وحين أرادت فصل غزة عن الضفة الفلسطينيون فعلوا ذلك بالنيابة ، وعندما أرادت دفع غزة باتجاه مصر سارت الأمور بهذه الوجهة فكل سكان القطاع باتوا يدركون أن مستشفيات مصر اقرب لهم من مستشفيات الضفة التي بدؤوا يتناسونها.
أعتقد أن ما تم ليلة الذكرى الرابعة والستون لنكبة الفلسطينيين يظهر بوضوح أن إسرائيل تلاعبت بالجميع حين أتمت مقايضتها الناجحة في اللحظة التاريخية التي التقطتها بصفقة مربحة بامتياز “الأسرى مقابل النكبة “لنكتشف نحن اللحظة غدا وهذا مدعاة للتفكير والمراجعة.