اللحظة فارقة، لا شك في هذا، عندما يذهب المصريون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس الجمهورية، ليس فقط لأنهم سيختارون بين مرشحين عدة، وإنما لأن الدولة المصرية سوف تأخذ خطوة إضافية على اتجاه استرداد عافيتها.
الدول في النهاية هي مجموعة مؤسساتها الفاعلة التي تدير أحوال شعب على رقعة جغرافية محددة؛ وكانت هذه المؤسسات قد تعرضت لعطب بالغ على أثر قيام ثورة يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. كان العطب أولا في مؤسسة الرئاسة، وبغض النظر عن مدى ديمقراطية المؤسسة، فإنه كان لها شرعية القيادة والمسؤولية، كما كان الحال في الدولة الفرعونية منذ آلاف السنين. وكان العطب ثانيا عندما تم تعطيل الدستور والاستعاضة عنه بحزمة من التعديلات الدستورية وإعلان دستوري مؤقت. وأيا كانت الحصافة في كليهما، وكلاهما كان موضع جدل كبير، فإن ذلك لم يكن بديلا عن دستور متكامل الأركان. وكان العطب ثالثا عندما توقفت السلطة التشريعية عن العمل بحل مجلسي الشعب والشورى. ثم كان العطب رابعا عندما بدا أن السلطة باتت عاجزة عن السيطرة على الأرض ومن عليها عندما انهار الجهاز الأمني، وبدأ الهجوم من وقت لآخر على مؤسسات سيادية في الدولة.
المسيرة المصرية طوال الشهور الماضية كانت لإصلاح ما عطب، واستبدال ما انكسر، ولا شك أن الانتخابات التشريعية كانت خطوة كبيرة إلى الأمام، واسترداد جزء كبير من الاطمئنان الأمني كان خطوة أخرى لا تقل أهمية. صحيح فشل المصريون حتى الآن في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، ولكنهم نجحوا في السير على طريق انتخاب رئيس للجمهورية، رغم العقبات الكثيرة التي وضعت على طريق هذا المسار، حيث كان هناك من اعترض على أن تجرى الانتخابات، بينما السلطة توجد في يد «العسكر»؛ وكان هناك من اعترض على انتخاب رئيس، بينما لم تتحدد سلطاته في دستور دائم؛ وكان هناك من أقام دعاوى قضائية اعتراضا على سير العملية الانتخابية أو اعتراضا على بعض المرشحين.
لم يكن الطريق سهلا على أي حال، ولكنه انتهى إلى 13 مرشحا، انسحب منهم اثنان بعد انتهاء وقت الانسحاب. وعلى أي الأحوال فإنه رغم كثرة العدد فإن نصفه فقط كان هو الذي يعتد به، سواء استنادا إلى استطلاعات الرأي العام، أو الاهتمام الشعبي والإعلامي بالمرشحين في مؤتمراتهم ونداوتهم وأثناء اتصالهم اليومي بالجماهير. نصف دستة تقريبا كانت هي التي يحسب لها حساب، أما البقية فكانت من صدق عليها أن كل إنسان له الحق في عشرين ثانية من التاريخ. أما من حصل على ما هو أكثر من ذلك فقد انقسموا إلى معسكرين متقابلين حسب حال المرشح وموقعه من محور «الدولة» و«الثورة» من ناحية، و«المدني» و«الديني» من ناحية أخرى. تقاطع المحوران، ونتج عن تقاطعهما مزيج من الشخصيات والظلال المصاحبة لها. ولو كان هناك قطبان للمعركة الانتخابية لكان الفريق أول أحمد شفيق في أحدهما، والدكتور محمد مرسي على الناحية الأخرى. الأول مثل الدولة المصرية بامتياز، فهو عسكري في المقام الأول، وعندما تصل إلى رتبة الفريق أول وقائد لسلاح الطيران المصري، فأنت في قلب ليس فقط الدولة المصرية، بل وفي قلب قلبها، وهو المؤسسة العسكرية التي كانت القاسم المشترك الأعظم للحكم في مصر منذ عام 1952 وحتى قيام الثورة. العمل وزيرا للطيران بعد ذلك، ثم رئيسا للوزراء في عهدين – الثورة وما قبلها – وضعه على رأس السلطة التنفيذية عندما فقدت هذه السلطة ليس فقط رئيسها، وإنما كانت تتعرض لأقسى الضربات. على القطب الآخر يوجد د. محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة، وأحد قادة جماعة الإخوان المسلمين، وهو المرشح الرئاسي للجماعة الذي وصل من السجن إلى الثورة، ومن الثورة إلى طلب منصب رئيس الجمهورية، استنادا إلى «مرجعية إسلامية» أحيانا، أو لتطبيق شرع الله أحيانا أخرى. ورغم أن كلا الرجلين يمثل حالة قائمة بذاتها، فإن الأول متهم بأنه كان جزءا من النظام الذي جرت الثورة عليه؛ والثاني متهم بأنه جزء من جماعة كانت خارجة على شرعية الدولة المصرية المدنية في كل العصور الملكية والجمهورية. ولكن أيا كانت الاتهامات الواقعة عليهما، فإن كليهما يمثل الحالة الصافية للتناقض الجاري في الحالة الانتخابية المصرية. والغريب أن كليهما يعتمد في دعايته الانتخابية على تثبيت الاتهام الواقع عليه؛ فالفريق لا يهمه إعلان الولاء للجمهورية التي سقطت حتى ولو عبر عن نيته لتغييرها، والدكتور ظل دوما يداعب الجماهير بأنه الحارس على تطبيق الشريعة في دولة مدنية.
ما بين القطبين توجد كل ألوان الطيف، عمرو موسى متصدر السباق في استطلاعات الرأي العام جمع الحسنيين، فهو «رجل الدولة» ولكن سخطه عليها، وانتقادها له يدفعانه في اتجاه الثوار. وعبد المنعم أبو الفتوح خرج من عباءة «الإخوان» ليجد نفسه مطاردا منهم، فيأخذ هذه على سبيل الاستقلال، ويخلطه بموقفه المؤيد للثورة وتاريخه النضالي، ويخلق خلطة تضع الليبرالية والإسلام في إناء واحد. كلاهما، موسى وأبو الفتوح، يخلقان وسطا مصريا، وإن كان في حالة موسى أكثر وضوحا ونقاء وتفاصيل؛ ولكنه في حالة أبو الفتوح أكثر آيديولوجية. حالتان بعد ذلك لهما مواصفات خاصة، حيث يوجد في اتجاه الدولة والمدني حمدين صباحي؛ والدولة والديني سليم العوا. الأول كانت دولته دائما الدولة الناصرية بكل ما شابها واشتهر عنها مع تعديلات أتت بها الثورة في اتجاه الديمقراطية. والثاني ظل مناصرا لدولة ما بعد الثورة، وكان الاستقرار النسبي الذي حققه المجلس العسكري يضمن تأييده الدائم، ولكن وقوفه في معسكر «الديني» لم يحرمه من خلطه بالعدل الذي كان واحدا من وصايا الثورة الكبرى.
من تبقى بعد ذلك من القائمة كان محض تفاصيل، ملأت الساحة صخبا، وطالبت بالمساواة مع الآخرين، ولكن خالد على والمستشار البسطويسي وعبد الله الأشعل لم يفلحوا أبدا في تخطي العتبات الأولى من التأييد، بل إن بعضا منهم لم يكمل نسبة 1 في المائة. ومع ذلك فإن وجود هؤلاء كان ضروريا، فلا تكتمل الصورة إلا مع وجود هوامشها، ولا تظهر أضواء المدينة إلا بعد تحديد أطرافها. وقد كان هؤلاء يمثلون الهوامش والأطراف ومعهم باتت المعركة الرئاسية مكتملة الأركان.
اليوم سيذهب المواطنون المصريون ليختاروا، ورغم أن المرجح هو أن أحدا من المرشحين لن يحصل على نسبة النصف ومعه صوت واحد على الأقل، فإن مصر، وربما معها المنطقة كلها، سوف تخرج وقد انحصر المنافس بين مرشحين اثنين فقط ربما يعبران عن الحالة التي يعيشها الشعب المصري، حيث الحيرة غلابة والبحث عن اليقين دائر.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط” اللندنية