عندما يقرر الانسان خوض المعترك السياسي، يتحتم عليه أولا الالمام بقواعد اللعبة ودراسة قوانينها، واكتساب الحنكة المطلوبة منه كدبلوماسي، كي لا يقع في مطبات هذه اللعبة التي كانت ولا تزال أقذر لعبة عرفتها البشرية.
لقد قيل الكثير عن الحنكة السياسية وقواعدها، فهناك من يراها مرتبطة بالخبرة و الذكاء والتمرس، وهناك من يرى فيها نوعا آخر من المراوغة ومعرفة سبل امتصاص غضب الخصوم وافراغ شحنات الاخرين.
لكن كيف يكون الحال عندما يتمسك البعض بمناصب قيادية في المجال السياسي، ويعتبرون أنفسهم قادة للمجتمع ومنظرين اجتماعيين وسياسيين، وهم لا يعرفون ألف – باء السياسة والتعامل مع الخصوم.
إن أخطر ما يمكن أن يصل اليه السياسي من درك هو الوقوع في مطب النزعة العائلية والقبلية، فينسى في لحظة غضبه انه يعتبر مثالاً يفترض أن يقتدي به الناس، حتى ولو كانوا من غير أنصاره، وعندما يفقد هذا “القائد” توازنه، لمجرد عدم تقبله للانتقاد، بل وللهجوم من قبل الخصوم، يفقد عنصر القيادة والحنكة، وتصبح تصرفاته مثارا للسخرية في مجتمعه.
على مدار التاريخ كان هناك ساسة تمتعوا بدعم هذه الفئة من الناس، ومعارضة فئة أخرى. وقد أجاد المحنكون من اولئك الساسة لعبة مصارعة الخصم على الحلبة السياسية، ومنهم من نجح واثبت للخصوم قدراته، ومنهم من فشل وهزم فمهد للخصوم استبداله.
ومهما قيل عن حنكة هذا السياسي أو ذاك، إلا قليلا ما يمكن الاشارة الى أي سياسي تمتع بالمثالية في العصر الحديث، فالسياسي في عصرنا، ما أن يصل إلى الكرسي، حتى يخال أنه “ملك زمانه” وعلى الناس الاصغاء لكل ما يقوله واطاعة أوامره، حتى ان كانوا يرون فيها خاطئة. لا يعرف معنى الديموقراطية وحرية التعبير، ولا يجيد قوانين لعبة شد الحبل وإرخائه، وعند أول امتحان يسقط في مطب اللعبة السياسية ويسقط عنه القناع ليكشف عوراته، مهما حاول تجميلها واخفائها.
وخلافا للسياسي في العصر الحديث، نجد في التاريخ العربي القديم انسانا يشاد اليه بالبنان لحكمته في التعامل مع الخصوم واجادته لقوانين لعبة السياسة بشكل مثير. ذلك الانسان، القائد، كان اسمه معاوية بن ابي سفيان، اول خلفاء الأمويين.
حين تولى معاوية أمر الأمة، كانت منقسمة الى ثلاث: شيعة بني أمية الذين كانوا ينادون بأخذ الثأر من قتلة خليفة المسلمين عثمان ابن عفان رضي الله عنه. وشيعة علي بن أبي طالب الذين كانوا يرون أن ذريته أحق بولاية أمر المسلمين من غيرهم، والخوارج الذين كانوا يعادون الفريقين ويرون أن أول واجب عليهم قتال معاوية ومن تبعه، وقتال شيعة علي. وأمة كهذه منقسمة كانت تحتاج الى سياسة حكيمة في إدارة شؤونها. وكان معاوية لها.. فقد أجاد التعامل مع الفئات الثلاث بحكمة وحنكة سياسية صارت مضربا للمثل على إمتداد التاريخ، وهي المعروفة للبشرية حتى اليوم باسم “شعرة معاوية”. لقد كشف معاوية سر حنكته السياسية تلك حين سئل كيف حكم أربعين عاما، ولم تحدث فتنة واحدة في الشام بينما الدنيا تغلي؟. قال: “لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما أنقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”.
من هنا، على السياسي في كل زمان ومكان أن يعرف بأنه لن يكون الملك المتوج أبدا، ولا الآمر الناهي والمطاع بلا حدود. عليه أن ياخذ في الاعتبار أنه سيكون هناك دوما من يتجرأ عليه ويواجهه بحقيقة عريه امام الناس، كما فعل ذلك الصبي الذي صرخ: “الملك يمشي عاريا” في حين كان الناس جميعا يبدون اعجابهم بحلته الوهمية.
لو كان كل سياسي سيلجأ إلى مقاضاة ومحاكمة كل من يعارض سياسته، او محاولة تلويث سمعته، او توجيه السيوف لقطع رقاب معارضيه، لكانت الدنيا بحرا لا ينضب من الدماء، ولما عرفت البشرية معنى الحرية والرأي المغاير.
الانسان القيادي هو المسؤول عن كل تصرف يأتي به، فإن قدم للناس ما ينفعهم في الأرض أثنوا عليه، وإن خذلهم ذموه.. ومن لا يفهم هذه الحنكة لا يستحق القيادة.