بقلم: د.علي محمد فخرو – ها أنَّ حضارة الغرب المركزية تمارس من جديد عادتها المحبَّبة لقادتها. فبمناسبة الضجة المفتعلة الهادفة لصيد أكثر من عصفور بطلقة إجرامية واحدة، مناسبة نشر فيلم بليد تافه عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم )، ينبري بعض قادة الغرب لإلقاء محاضرة، فيها الكثير من التقريع واللوم والتعالي، على جماهير العرب والمسلمين المجروحة الغاضبة.
تدور المحاضرة هذه المرة حول موضوع حرية التعبير، الجزء المقدس من ايديولوجية الليبرالية العتيدة. وهكذا تريد المراوغة الإعلامية الامريكية الشهيرة نقل الموضوع من ساحة السياسة الغربية، تلك الساحة المليئة بثقل تركة الماضي الاستعماري وبالاختراقات الصهيونية لكل مجالاتها وبهيمنة جشع وأطماع العولمة الرأسمالية في الحاضر وبهوس المخاوف المتخيلة بشأن ما سيأتي به المستقبل…
نقل الموضوع من تلك الساحة السياسية إلى ساحة الفكر والمبادئ والحقوق الإنسانية، وهو نقل حق يراد به باطل.
في ساحة السياسة القضية واضحة.. هناك اعتداء شيطاني، مع سبق الإصرار، يراد به إدخال العرب والمسلمين في معارك جانبية عاطفية حمقاء تبعدهم عن التركيز على قضاياهم الكبرى، مقاومة المشروع الصهيوني الاستيطاني، منع الهجمة الاستعمارية الجديدة لاستباحة ثروات البترول الهائلة الفائضة، وإكمال دحر مؤسسات ورموز الاستبداد في بلاد العرب.
وإذن لا بد من حرف الموضوع إلى ساحة أكثر غموضاً، مليئة بوجهات نظر متباينة وقادرة على اجتذاب جزء من ليبراليي العرب. وهكذا طرح موضوع حرية التعبير واصبحت حرية التعبير في قلب ذلك الحدث المفجع. حسناً، دعنا إذن نعالج هذا الجانب من داخل الليبرالية الغربية نفسها.
بداية فان أحد أهداف حراكات الربيع العربي حصول المواطن العربي على حق حرية التعبير. لذلك لا حاجة لإلقاء المحاضرات عن هذا الحق، فقد مات الكثير من شباب العرب من أجله.
لكن هل حقاً أن حريَة التعبير ممارسة مطلقة لا تخضع لأية محددات؟ إذن لماذا في بلد الحرية والإخاء والمساواة خضع المفكر الفرنسي جارودي عندما تجرأ وعبر عن شكه في عدد اليهود الذين ماتوا في أفران الهولوكوست النازي، لمحاكمة جائرة انتقامية وحكم عليه بغرامة مالية ناء تحتها وبعزل معيب في الإعلام الفرنسي وكل المؤسسات الأكاديمية، ليموت وحيداً مقهوراً؟ وفي أمريكا ألم يعاني أساتذة الجامعات ويطردوا من وظائفهم عندما حاولوا تقويم، مجرد تقويم، الهولوكوست بموضوعية وكسر هالة الأساطير التي تحيط بالموضوع؟ ويستطيع الإنسان إعطاء العشرات من الأمثلة.
إذن فعند ممارسة الواقع وضع الغرب لنفسه محددات لحرية التعبير في موضوع يهمُّ في الأساس بضعة ملايين من اليهود. فلماذا لا يستطيع وضع محددات بالنسبة لموضوع يهمُّ ألفا وخمسمئة مليون من العرب والمسلمين، بل ويهم الملايين من المسلمين القاطنين في ربوعه؟
ثم ،هل حقاً أن حرية التعبير من الوجهة النظرية لا تقبل الأخذ والعطاء؟ أليس الموقف الليبرالي منها يختلف عن الموقف المحافظ؟ ألا يصر الأخير من خلال مجموعة من فلاسفته على أنها ظاهرة معقدة يجب ألا تمارس إلا بالتزامن مع القيم، وأن المحافظة عليها يجب أن يسبقها كشرط وجود السلام الاجتماعي، الذي بدوره يحتاج الى قوانين؟ وإذن فالقانون والقيم هما في قلب هذا الموضوع على الأقل عند قسم كبير من أناس الغرب.
ولذا فان إدمون برك، السياسي والكاتب الإيرلندي، يقول بأن ‘الحرية يجب أن تحدَّد من أجل أن تمتلك’ ويعبر الشاعر الانكليزي هارتكي كولردج عن روح القيم حين يتساءل ‘ولكن ما هي الحرية؟ فهمها الصحيح يجعلها رخصة كونية لأن تكون طيباً’، بل إن الكاتب الساخر الشهير برنارد شو يصف الحرية بأنها تعني المسؤولية. وعندما يكتب الكاتب الانكليزي أ.س.جريلنج عن حرية الكلام يعترف بأن هناك ظروفاً تبرر وجود محددات قوية لحرية الكلام، من بين أهمها خطابات الكراهية. وأخيراً هل ننسى صرخة مدام رولاند الفرنسية الشهيرة ‘ايتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟’.
لا، ليس بالصحيح أن حكومات الغرب لا تستطيع منع أنواع حرية التعبير المجنونة السفيهة المثيرة للكراهية. إن باستطاعتها ألا تتعامل مع هكذا حرية وكأنها قيمة ميتافيزيقية مطلقة وكاملة التحرر من كل قيد قانوني أو قيمي، بل العكس هو الصحيح. ولديها تجارب غنية في هذا الحقل، ولديها إرث فلسفي كبير يقول بأنه لا يمكن الحديث عن الحرية من دون الإشارة إلى نقيضها، القيم والحقوق والقوانين المحددة لها.