سيناريوهات مختلفة للغارة على الخرطوم
بقلم: عبد الباري عطوان – ما زال الغموض يلف وقائع الغارة الاسرائيلية على مصنع الاسلحة المزعوم في الخرطوم، فالحكومة الاسرائيلية لم تعترف صراحة بوقوفها خلف هذا العدوان، ونظيرتها السودانية اكتفت بالحديث عن غارة اوقعت شهداء وجرحى، وهددت عبر المتحدثين باسمها بالانتقام في المكان والزمان المناسبين.
هناك تسريبات عديدة في الصحافة الاسرائيلية حول هذه المسألة، يقول احدها ان القصف استهدف شحنة اسلحة ايرانية متطورة كانت سترسل الى قطاع غزة تتضمن صواريخ بعيدة المدى، وهناك آخر يقول ان الغارة كانت تدريبا عمليا استعدادا للهجوم على ايران بفعل طول المسافة (1900 كيلومتر)، واحتياجات التموين بالوقود في منتصفها.
الرواية الاولى حول استهداف شحنة اسلحة ايرانية الى حركة الجهاد الاسلامي في قطاع غزة ربما تكون غير مقنعة، فلماذا تتواجد هذه الشحنة في المصنع المذكور وليس في المطار او ميناء بورسودان او اي مدينة اخرى؟ اما كون الغارة تدريبا للطيران الاسرائيلي على الطيران لمسافات بعيدة فهي ايضا تحتاج الى تمحيص اكثر، فهناك البحر الابيض المتوسط لاجراء مثل هذه المناورات، وقد جرت مناورات مماثلة في السابق بالاشتراك مع دول اوروبية.
المرجح ان الخرطوم وحكومتها بالذات، هي المستهدفة بهذه الغارة، كما ان مصر مستهدفة ايضا، لان الطائرات الاسرائيلية عندما طارت من قواعدها مرت قرب دولتين عربيتين هما مصر والمملكة العربية السعودية اللتان تتشاركان في مياه البحر الاحمر قبل ان تصل الى السودان.
اسرائيل ايضا تريد توجيه رسالة الى الدول الافريقية التي تتحكم بمنابع النيل مثل اثيوبيا وجنوب السودان واوغندا تقول انها ليست بعيدة عنها، ويمكن ان تكون الى جانبها، في حال حدوث اي خلاف مع دولة المصب (مصر) والممر (السودان) حول اعادة توزيع الحصص، وهي مسألة يرفض البلدان الخوض فيها.
توقعنا عقد اجتماع طارئ للجامعة العربية لبحث هذا العدوان، او لقاء مصريا ـ سودانيا على مستوى القمة، ولكن هذا لم يحدث مطلقا، وفضلت جميع الاطراف المعنية، في الجانب العربي، التزام الصمت المطبق، وتجاهل الامر برمته.
لا نعرف اين سترد السلطات السودانية على هذا العدوان ومتى، لكن من المؤكد ان هذا الرد سيتأخر، فهي تتعرض لضغوط غربية واقليمية ضخمة، خاصة في دارفور حيث المؤامرة الغربية المتواصلة لفصلها عن السودان، او في الحدود الجنوبية مع دولة جنوب السودان حديثة الولادة، وهي حدود تشهد توترا بسبب الخلاف على بعض المناطق النفطية.
الانتقام السوداني ربما يأتي من خلال دعم اكبر لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتسهيل تهريب الاسلحة الحديثة اليها، وبصورة اكبر مما كان عليه الحال في الماضي، فالرئيس السوداني عمر البشير مشهور، وهو الجعلي (ينتمي الى قبيلة الجعلية) بعناده واصراره على الاخذ بثأره.
هذه الغارة لم تكشف عن قوة اسرائيل، فهذه مسألة معروفة على اي حال للقاصي والداني، وانما عن توترها نتيجة قلقها المتفاقم من جراء تعاظم الاخطار التي تهدد امنها واستقرارها، بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك حليفها الاستراتيجي الموثوق في المنطقة، وعدم قدرتها على التعاطي مع ملفي ايران النووي وحزب الله العسكري المتطور.
اسرائيل قصفت ما ادعت انها قوافل اسلحة انطلقت من السودان الى قطاع غزة، مثلما اغارت على سيارة تقل فلسطينيين قالت انهم يشرفون على عمليات التهريب هذه لمصلحة حركة حماس وقتلت من فيها، ولكن ان تذهب بعيدا وتقصف الخرطوم فهذا استفزاز ليس للسودان فقط وانما لجميع الدول العربية التي تدعي السيادة والقرار المستقل.
المأزق الاسرائيلي يتفاقم، وكذلك المأزق العربي ايضا، الفارق ان المأزق الاسرائيلي يمس الحكومة والشعب معا، بينما المأزق العربي يمس الحكام فقط، وربما يصب في مصلحة الشعوب الثائرة عليهم بسبب خنوعهم واستسلامهم امام الاهانات الاسرائيلية. وفي الحصيلة النهائية ستكون اسرائيل هي الخاسر الاكبر.