تمر الشعوب والأفراد بكم هائل من الأحداث والذكريات فتتحول بعضها إلى تاريخ ويُنسى البعض الآخر، ولكن هنالك مجموعة من الأحداث الفارقة مأساوية كانت أم بهيجة التي تُطبع في ذاكرة المجتمع ووعي أفراده وتبقى راسخة لزمن طويل، فإما أن تصبح تاريخاً يتعلمه الأبناء أو ذاكرة حية أو تذهب هي الأخرى مهب الرياح وتتلاشى. تساهم هذه المحطات الرئيسية في حياة الشعوب في بلورة الهوية الفردية والجماعية لكافة أبناء المجموعة، وهذه العملية هي متواصلة عبر المراحل المتعاقبة لتطور الفرد داخل المجتمع. تتفاوت الأحداث المأساوية في مستوى حضورها بين أبناء المجموعة فمنها ما يُخلد سنوياً ومنها فقط في مواسم معينة ومنها التي تطفو عند تكرار مثلياتها.
اليوم وبعد ست وخمسين سنة خلت على مجزرة كفر قاسم الرهيبة لا بد لنا من التساؤل بل التزود بالإجابات الواضحة لما ستؤول إليه ذكرى التاسع والعشرين من تشرين، وماذا يمكننا عمله لتوريث الجيل القادم بالذات حيال التناقص الطبيعي في ذوي الشهادات الحية من الجرحى والناجين وأبناء عائلات الشهداء الذين شكلوا الركيزة الأساسية لتخليد الذكرى من خلال رواياتهم عاما بعد عام؟ ومن سيغذي ذاكرتنا الجماعية من بعدهم؟ وهل باتت مجزرة كفر قاسم إحدى المركبات الأساسية في هويتنا الجماعية وبالتالي ماذا سيصنع أبناؤنا مستقبلا لإبقاء الذكرى حية بينهم يستأنسون بإسقاطاتها وإرثها في حال عاد الجزار ليكرر فعلته؟
لقد تناولت مئات الأبحاث في العلوم الاجتماعية على اختلافها، موضوع الذاكرة التي ترسخ في أذهان وقلوب الأفراد والجماعات يتناقلونها عبر الأجيال فتُشكِل بمُجملها هويتهم وتراثهم الفكري والحضاري. وتعرّف الذاكرة على أنها محاولة لإعادة صياغة الماضي تحت تأثير فهمنا المعاصر له. وفي هذا السياق يشير علماء الاجتماع إلى عدة مفاهيم أساسية:
1. الذاكرة الفردية / الذاتية: هي مجموع الذكريات التي تُجمع من قِبَل شخص واحد وهو صاحب التميز والقدرة على تقييم مدى أهميتها وترتيبها وتتعلق في أغلب الأحيان بحياة وتاريخ شخص ما.
2. الذاكرة الجماعية: هي مجمل الذكريات المتناقلة داخل مجموعة معينة، فذاكرتنا بمعظمها جماعية مشتركة مع الآخرين وقد حملت وجهات نظر الآخرين في تصور الحدث ونحن بدورنا اكتسبناها من خلال ثقافة وإرث المجموعة لننقلها لمن خلفنا كجزء من هويتنا الجماعية.
3. الهوية الجماعية: هي تلك الهوية التي تحملها مجموعة لا يستهان بها من الأفراد الذين ينتمون إلى مجموعة حقيقية أو وهمية والتي تعرّف نفسها كذلك من خلال حدود واضحة المعالم.
لقد أجريت أنا وزميلي الأخ عبد الله صرصور قبل سنوات بحثا حول المناظر والكلمات والمعروضات التي تمثل المجزرة في الذاكرة الفردية والجماعية للمشاركين في البحث من أبناء الجيل الثاني والثالث وتتبادر إلى أذهانهم تلقائياً حين تُذكر المجزرة. تبين لنا أن المجزرة حاضرة جدا في وجدانهم وهذا أمر مشرف، والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح الآن: ماذا لو أجري البحث ذاته مع فئة الطلاب والشباب في يومنا؟
لقد عرضنا 10 مصطلحات تعبر عن ذكريات حسية ومعنوية تعكس ذاكرتنا الجماعية اتجاه المجزرة فتبين أن أكثر المواقف خلودا وتأثيرا في نفوس المشاركين:
الأمر الذي تلقاه الجنود وقت المذبحة حسب شهادة السيد محمود فريج أبو الأمين: “תפסיקו חבל על הכדורים תנו לכל אחד כדור בראש”، وكذلك المصطلح المستعار من عالم الزراعة “أحصدوهم” وهذان مثالان لذاكرة فردية تحولت إلى ذاكرة جماعية. المهم في الأمر هو لماذا يجب أن ينتقل مثل هذا العمل من طور البحث الاجتماعي إلى خطط ووحدات تدريسية محكمة البناء.
4. وكلاء الذكرى وسفراؤها: هم الأفراد والمجموعات والمؤسسات والأطر سياسية كانت أم اجتماعية التي تأخذ على كاهلها مسؤولية التمثيل والنقل والتوريث في شتى المحافل. فمنهم سفراء الخارج الذين يصبون جل جهودهم في تعميم الذاكرة على الصعيد العام، أي خارج المجموعة من سياسيين وصانعي قرار وإعلاميين وجمهور الباحثين والمفكرين ونخب المثقفين وموجهي الرأي العام.
أما سفراء الداخل فيعملون على ترسيخ الحدث الجلل في ذاكرة الأجيال المتعاقبة من أبناء المجموعة. وطبيعة عملهم ذات منحى تربوي ثقافي توثيقي يصاغ من خلاله الوعي الجماعي من وحي ذلك الحدث.
وهنا لا بد من التشديد على أهمية التوثيق بأشكاله المختلفة من شهادات حية لمن عايشوا الذكرى بأم أنفسهم وكذلك أبناء الجيل الثاني. ومفهوم التوثيق في زماننا بات يحتمل أوجه إضافية من أعمال فنية تشكيلية، ومسرحية، وشعرية وغيرها. لقد اكتسب التوثيق في ظل الثورة المعلوماتية بعدا آخر من سهولة الانتشار والترويج وتخليد الذكرى وهو التوثيق الإلكتروني.
إن المتتبع لتخليد ذكرى مجزرة كفر قاسم عبر العقود الستة يرى أنه قد مر في أطوار مختلفة تستدعي عناية بحثية خاصة.
ما يهمنا في هذا المقال هو محاولة تسليط الضوء على أهمية تعزيز ذاكرتنا المشتركة بما يخص المجزرة ومكانتها في وعينا الجماعي. فيما يلي بعض الميزات التي نمّت في نفوسنا وذاكرتنا الفردية والجماعية تلك الواقعة الدموية الرهيبة:
أولاً: إن مجزرة كفر قاسم تنفرد ببعض الميزات علاوة على ظرفيتها الجيوسياسية الخاصة، وبشاعتها، (وكل المجازر حين يرتكبها المجرم يفقد إنسانيته بل يتخلى عنها بفعلته المقيتة ويُخرج نفسه من دائرة الآدميين)، فقتل الأطفال والنساء والشيوخ العُزل العائدون من أعمالهم دون سابق إنذار ودون حول لهم ولا قوة وبالذات إن المعتدي هو المؤسسة المسؤولة عن أمنهم وحمايتهم. والتاريخ المعاصر ندُرت فيه الدول “الديموقراطية” التي تقتل مواطنيها ورعاياها في ظروف ليست ثورية انقلابية أو ارهابية. فإسرائيل خطّت سابقةً تضاهي في دمويتها أكثر النظم الفاشية والأبرتهايدية. فهذه الخاصية أسهمت في تسطير أحداث المجزرة الرهيبة في كتب التاريخ والسياسة ووعي النخب والمثقفين والناشطين الحقوقيين من شتى القوميات والخلفيات.
ثانيا: لقد سخر الله لهذه المذبحة سفراء أمناء يحملونها معهم ويوصلون رسالتها إلى كل جمهور ممكن خارج نطاق كفر قاسم. وهنا لا بد من ذكر بعضهم لمثال لا الحصر وليعذرونا من سقطوا سهوا فكفاهم فخرا أن أسماءهم ستكتب بماء الذهب ومنهم: السيد لطيف دوري، القائد توفيق طوبي، الصحفي أوري أفنيري، السيد ماير فلنر، الشيخ عبد الله نمر درويش، الشيخ النائب إبراهيم صرصور، المرحوم علاء عيسى، الأستاذ مجد صرصور صاحب مجلة الشروق، الحاج عبد الله نمر بدير، والدكتور إبراهيم أبو جابر، وموقع القرية نت ورؤساء بلدية كفر قاسم المتعاقبين ورؤساء اللجنة الشعبية وشعراء المجزرة سميح القاسم ومحمود درويش والفنان عبد تمام وفرقة الصراط الإسلامية للنشيد والمسرح.
ثالثاً: لقد شكل الجرحى والناجون وأبناء الشهداء وذويهم ركن الزاوية في تجسيد المجزرة وأحداثها وتصوير ما واتاها من مشاهد ببساطة وأصالة متناهية لنا نحن أبناء بلد الشهداء وقد تعدت رواياتهم إلى خارج كفر قاسم. فبدورهم هذا فتحوا لنا نافذة نطل من خلالها على بعض ما يدور في خلجات كيانهم المتمحور حول تلك الذكريات. فذاكرتهم الفردية أضفت جزءًً من ذاكرة كل فرد من أبناء الجيل الثاني والثالث لا بل تصدرت جانباً من وعينا المشترك. فبوركت جهودهم في حمل الأمانة ونقل الرسالة التي كانت وما زالت تغذي فينا شريان الحياة. لا نستطيع تجاهل العامل الزمني الذي يومئ لنا بالانتباه والتيقظ فستة عقود من جريان أنهار الذكرى تهدد بالانقطاع مع قرب نفاذ الساعة الرملية، فالجرحى والناجون وأبناؤهم أصبحوا يحصون على الأصابع، وبتنا نقتبسهم بعد الترحم عليهم. والتحدي الذي سيبقى أمامنا ماذا عسانا صانعون ومن الذين سيرفعون الراية من بعدهم؟
رابعاً: إن وجود اللجنة الشعبية وما تلاقيه من إجماع وتوافق بين مختلف التيارات والأطر الناشطة على الساحة القسماوية ، التي تواكب عملية إحياء الذكرى السنوية للمجزرة في كل عام. إنّ اللجنة الشعبية ورؤساؤها هي من أهم الوكلاء البارزين للذكرى فتحت سقفها تنتظم كافة الفعاليات الملازمة لها.
بعد التعرض لأهم العوامل التي ساهمت في بناء وعينا المشترك حول المجزرة لا بد من طرح بعض الأفكار التي تحتاج عنايةً من القائمين على مشروع تخليد ذكرى المجزرة وبالذات أننا نشهد مؤخرا مبادرات شبابية مباركة تصب نشاطها وإبداعاتها من أجل تقديم ذكرى المجزرة للأجيال الصاعدة بأسلوب عصري بعيدا عن النمطية والتقليد، فيما يلي بعضاً منها:
1. إقامة “مركز الشهيد الحي للأبحاث ودراسات المجزرة”: يُشكل هذا المركز من جهة مرجعا علميا يحوي في طياته كافة الكتب والأبحاث والمقالات والإصدارات الفنية والمقالات الصحفية المتعلقة بالمجزرة وفي كل اللغات ويواكب كل ما هو جديد حول الموضوع، ومن جهة أخرى يدفع إلى بناء ومرافقة وتمويل اقتراحات بحثية أكاديمية تتناول المجزرة وحيثياتها وما بقي منها في وعينا الجماعي. أما الجانب الثالث فيساهم المركز في صياغة الوعي الجماعي عن طريق تجهيز وحدات تعليمية مخصصة لمختلف الأجيال والفئات. فلا يعقل أن تقدَم المجزرة لطلاب الروضات بنفس الأسلوب الذي يتناوله طلاب المرحلة الثانوية.
2. مأسسة اللجنة الشعبية وتشكيلها وإعادة هيكلتها بحيث تضم إعلاميين وأكاديميين وأصحاب تخصص إضافة إلى ممثلي الأطر السياسية والشبابية المختلفة تنعقد على مدار العام ولا ينحصر وجودها في الشهر الأخير قبل الذكرى.
3. مشروع توثيق ومسح للشهادات والكتابات والإفادات المتبقية بين يدي أبناء الجيل الأول للمجزرة، إضافةً لما سيقوم به مركز الدراسات المقترح في البند الأول.
4. تشكيل طاقم إعلامي ومن أصحاب الأقلام والرأي ورجالات السياسة يأخذ على عاتقه الإبقاء على ذكرى المجزرة في قلب الحدث الإعلامي مع التشديد على إدراجها كجزء من الهوية والوعي العام لجماهيرنا العربية في الداخل الفلسطيني عن طريق لجنة المتابعة أو أي إطار آخر.
5. ربط فعاليات ونشاطات إحياء الذكرى السنوية في قضايا آنية نابعة من واقع شعبنا الفلسطيني وتحديات جماهيرنا العربية بشكل عام وبذلك تصبح الذكرى ملكا لجميع الفلسطينيين أو حتى أن تقتصر على مجتمعنا القسماوي ذات مدلولات واقعية اجتماعية كمكافحة العنف والجريمة، وقضايا التعليم، والتعليم العالي والمسكن والفجوات بين الأجيال أو تنمية روح التطوع والانتماء أو الاهتمام بالبيئة ونظافتها…..
لقد قطعنا نحن في كفر قاسم والحمد لله ، شوطا طويلا في مشروع صياغة الوعي الجماعي حول المجزرة ولآبائنا وأجدادنا من حملة راية الذاكرة الفضل بعد الله والخطوات العملية الأولى قد انطلقت منذ زمن بعيد خلاف باقي المجازر والمآسي التي ألمت بشعبنا إبان النكبة وبعدها. فكفر قاسم هي بلد الشهداء وكل مواطنيها يتعاملون مع ذلك كأحد مركبات هويتهم الجماعية، والشارع الرئيسي هو شارع الشهداء والمقبرة هي مقبرة الشهداء وهناك مسجد ومتحف الشهداء والنصب التذكاري وملحقاته في ساحة البلدية والبوائك والمسيرة السنوية المتعارف عليها ومسيرة الشموع والندوات والمحاضرات ولا ننسى مشروع ديوان الشهيد والأفلام الوثائقية وعشرات المؤلفات والتحف الفنية من رسومات وأناشيد ومسرحيات ونثريات وإصدارات سنوية ومقالات ومجلات تجسد هذه الذاكرة. إن هذه الفعاليات بمجملها تصب في هذا السياق ولكنها تبقى بمبادرات فردية أو جماعية أو حزبية يجب أن تنتقل إلى مرحلة جديدة تكون ضمن مشروع وحدوي متكامل ومدروس نوفر من خلاله الكثير من الطاقات. لا أعني بهذه الاقتراحات وضع حد للتنافس والإبداع والتميز النوعي الذي يجلبه كل طيف وإنما بالإمكان أن تكون تلك الخصوصية من خلال السقف الجامع وهو اللجنة الشعبية. فعلى سبيل المثال برنامج يوم الذكرى يحتمل المشترك والتنوع في نفس الحين.
كلي أمل أن لا تبقى هذه المقترحات حبرا على ورق وأن تأخذ محمل الجد لدى المعنيين والحريصين وسنكون مجندين لتلك المبادرات حتى لا تنتقل ذكرى مجزرة كفر قاسم إلى طي النسيان مع مرور الأجيال كما آلت إليه عشرات ومئات الوقائع واختفائها من سجلاتنا.
سامر بدوي – مستشار تنظيمي ومدير مشاريع