الشائع عند الجمهور العربي أن هنري كيسنجر من أعتى أنصار إسرائيل وأخلص خلصائها. إذ لا يمكن للعرب أن ينسوا الدور الذي اضطلع به هذا السياسي الخطير في فرض ترتيبات إنهاء حرب أكتوبر 1973 على النحو الذي كرس مصلحة الأمن القومي الإسرائيلي.
ولا يمكن أن ينسوا دهاء ‘العزيز هنري’ الاستثنائي الذي مكنه من استدراج الرئيس السادات إلى سحب البساط من تحت الحليف الروسي، وكيف زين له وضع كامل البيض المصري في السلة الأمريكية، فإذا بالسادات يروج لهذا الانقلاب بعنوان أن 99 بالمئة من الأوراق في يد أمريكا.
كما لا يمكن للعرب أن ينسوا أن نفوذ كيسنجر الفكري والسياسي قد ظل يلقي بظلاله في قلب الوطن العربي حتى بعد أن غادر الحكم، بحيث يمكن قراءة صلح السادات المنفرد مع إسرائيل (هذا الصلح الذي حيد مصر الرسمية ثم همشها تهميشا لا تزال آثاره مستمرة إلى اليوم) على أنه مجرد مضيّ بالمسعى الكيسنجري في ما يسمى ‘الشرق الأوسط’ إلى نهاياته الاستراتيجية المنطقية.
إلا أن الانطباع الشائع عن كيسنجر لدى الجمهور الأمريكي المتابع هو أنه لا يكنّ ودا لإسرائيل، بل هناك من يقول، في صيغ غير متروية، إنه لا يؤيد إسرائيل بالمرة (رغم أنه يهودي!) وكثيرا ما يستشهد هؤلاء على صحة ما يذهبون إليه بعدم تأييد كيسنجر لهجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، إذ ينسب له أنه قال للرئيس نيكسون عقب اجتماعهما في آذار (مارس) 1973 في البيت الأبيض مع غولدا مائير، التي ناشدتهما آنذاك الضغط على موسكو، إن ‘هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي ليست غاية من غايات السياسة الخارجية الأمريكية. وإذا ألقي باليهود في أفران الغاز في الاتحاد السوفييتي، فلن تكون تلك قضية أمريكية. ربما تكون قضية ذات طابع إنساني’.
لم أكن آخذ الانطباع السائد أمريكيا حول انعدام الود بين كيسنجر وإسرائيل مأخذ الجد، إلا أن قراءة مذكرات الإذاعي والدبلوماسي الراحل عيسى خليل صباغ، التي صدرت في لندن عام 1991 بعنوان ‘من بين أوراقي’، قد أقنعتني بأن كيسنجر كان ينظر إلى إسرائيل واللوبي النافذ الزاعق المناصر لها في أمريكا نظرة واقعية خالية من العواطف.
قد يقال إن هذا هو شأن النخبة من قدامى الساسة الجمهوريين عموما منذ هاري ترومان حتى جيمس بيكر (الذي لم يتمالك نفسه يوما فأقذع في شتم إسحاق شامير). إلا أن حالة كيسنجر، كما تتبدى في هذه المذكرات، إنما هي في الأساس حالة استقلالية فكرية عصية على الانسياق مع سائد الرأي.
كان الفلسطيني عيسى خليل صباغ (الذي أعده، شخصيا، أفضل مذيع أنجبته أمة العرب: ولمن ابتغى أن ينعم بذهب الصوت ومكنون البيان فليرجع لأرشيف هيئة الإذاعة البريطانية وسيسمع، من تسجيلات الأربعينيات، عجبا!) يعرف كيسنجر معرفة وثيقة، فقد رافقه في كثير من رحلاته المكوكية ترجمانا بينه وبين الحكام العرب. وقد روى عنه أقوالا وغمزات تشير في مجملها إلى ضيقه بإسرائيل وبرمه من صلف ساستها وأنصارها.
ولهذا فليس من المستبعد أن يكون كيسنجر هو حقا قاذف القنبلة التي تحدثت عنها ‘نيويورك بوست’ أخيرا. فقد ذكرت معلقة أخبار المشاهير في الجريدة سيندي آدمز – في معرض استهجانها تقصير أوباما في إثبات القدر اللازم من الحماس في نصرة إسرائيل، وتذرعه بمشاغل الحملة الانتخابية منعا لإمكان اللقاء بنتنياهو – إن ‘العارف العليم بأحوال العالم’ هنري كيسنجر قال، في ما نقله لها الشهود: ‘في غضون عشرة أعوام لن يبقى شيء اسمه إسرائيل’، كتبت سيندي: ‘أكرر حرفيا: في غضون عشرة أعوام…’.
ورغم أن هذا القول يؤدي، بالضرورة، إلى استحضار نبوءات سبقت حول قرب زوال إسرائيل، منها ما هو موجود في الأدبيات الإسرائيلية ذاتها (كما وثقها المرحوم عبد الوهاب المسيري) ومنها ما هو ذو خلفية عقيدية عند المسلمين (مثل القولة المنسوبة للشهيد الشيخ أحمد ياسين)، فالأرجح أن كيسنجر ما كان مبشرا بنهاية إسرائيل بقدر ما هو منذر (للقلقين على مآلها) من تزايد احتمال زوالها. ولا يبعد أن يكون الرجل الماكر تعمد قول ذلك في سياق الترهيب: إما من ‘الخطر النووي’ الإيراني، أو من ‘الخطر الديمغرافي’ الفلسطيني (إذا حال اقتران السياسات بالمستوطنات نهائيا دون قيام تلك الدويلة القابلة لسيناريوهات البقاء الافتراضي)، أو من مجرد فوز أمريكي على آخر: فوز أوباما الحرون الجحود على رومني الكامل الولاء والوفاء.