تمعنت مليا بملامح الطفل الشهيد ابراهيم دلو ابن العام ونيف الذي مزقت صواريخ الاف 16 جسده الضعيف مع اخوانه واخواته وعائلة ابيدت بسلاح الدولة الباحث عن ترميم هيبتها.
تأملت فأعادني ذلك المشهد سنوات الى الوراء عندما وصلت الى دير البلح لأحمل بين يدي جثمان الطفلة الشهيدة ايمان حجو التي مزقت “ديموقراطية” اسرائيل جسمها وهي في حضن والدتها.سجيتها في القبر، ودعتها، بكيتها ثم اصابني ذلك الاحباط والغضب بأنني لم اكن هناك لاحمي ابراهيم الصغير او على الاقل لانني لم اكن هناك لاحمله في يدي وأسجي جسده الطاهر في ارض غزة الحبيبة التي اغار عليها نتنياهو وبراك لكي يستعيدوا هيبتهم المجروحة ويرفعوا من اسهمهم الهابطة فلم يجدوا سوى جسد ابراهيم ورفاقه وإخوانه الذين لم يخرجوا ليلعبوا في ذلك اليوم لان السماء كانت تمطر رصاصا وقذائف.
استذكرت ما كتبته آنذاك عن ايمان حجو ثم عن ايان الحمص الشهيدة الاخرى.
عندما وصلت إلى دير البلح في الثامن مايو (ايار) 2001، جئت لأحمل بين يدي ذلك الجثمان، كتلة اللحم الصغيرة للطفلة الشهيدة إيمان حجو، ابنة الأربعة اشهر التي مزقت قذائف الاحتلال الإسرائيلي ظهرها وجعلت منه اشلاء. سجيتها في اللحد وكأنني أسجي ابنتي. حملت ريشة بين يدي، ولكنني شعرت بأنني احمل ثقل الألم والظلم والمعاناة الفلسطينية التي تجمعت كلها في عيون طفلة أبىَ وحشُ الاحتلالِ إلا ان يقطع عليها طريق الحياة.
وقبل أيام شيع الآلاف في جنازة غاضبة جثمان إيمان الهمص، ابنة الثالثة عشرة التي مزقت 22 رصاصة جسدها الطاهر، وهي في طريقها إلى المدرسة في محور صلاح الدين في رفح. كانت تلك رصاصات قناصة رأوها من بعيد تحمل حقيبتها وتلبس زيها المدرسي.. راقبوها من خلال عدستهم فطلبوا الإذن: إنني أرى طفلة تحمل حقيبة.. اشعر بخوف.. انها تتقدم.. ويأتي الرد الحاسم لـ”محاربة الإرهاب” بالموافقة، فتنطلق رصاصات قاتلة من ثلاثة مصادر للنيران لقناصين.. تهرب ايمان وتلقي حقيبتها الممزقة، يطلقون النار عليها من الخلف.. أصيبت ايمان.. يصل الى المكان قائد الوحدة وعدد من جنوده فيرى انها ما زالت تتحرك.. يطلق عليها رصاصتين ليتأكد من نجاح مهمة القتل.. ثم لا يكتفي بذلك، بل يفرغ في جسدها عشرين رصاصة، لتنغرز في جسد إيمان، تماما كما انغرزت شظايا القذيفة في جسد إيمان ابنة الأربعة أشهر. انهم يقتلون الأطفال.ثم ينطلق “صوت إسرائيل”، ليقول إنهم قتلوا “مخربة”، ومنعوا “عملية”، وأحبطوا “تفجيرا”.
لقد كانت إيمان بزيها المدرسي تحمل حقيبة (!).. سقطت لأنها تحمل حقيبة، وهي في طريقها إلى المدرسة! طلابنا يحملون الحقائب فماذا يحمل طلابكم ؟ ألا يحملون حقائبهم ويسيرون ؟!
لقد استلوا عدساتهم وبنادقهم.. شاهدوها.. دققوا فيها.. رأوا أنها طفلة وأطلقوا النار.. لأنها تحمل حقيبة. قالوا بعد ذلك: خطأ (!) كما يقولون دائما، فالاحتلال لا يقتل الأطفال إلا “خطأ”. منذ الانتفاضة حتى الآن “اخطأوا” 815 مرة.. 815 طفلا! قد يخطئ بنو البشر مرة، مرتين، عشر مرات، ولكن هل يتكرر الخطأ 815 مرة ويبقى مجرد “خطأ” فقط ؟
لقد اعتاد هؤلاء الذين أطلقوا النار، ومن أصدر لهم الأمر، على ان مجتمعهم (الإسرائيلي) يغفر وينسى.. انهم “الأبناء الأعزاء يدافعون عن البيت”.. حتى لو كان في رفح وجباليا وبيت حانون ونابلس وجنين.. يقتلون حتى الأطفال ليجلبوا الحياة لمن هم “الأفضل”.. أولئك الذين هم وحدهم يستحقون الحياة.
وهكذا، فإن موت طفلين من “شدروت” ـ ونحن لا نقر قتل المدنيين، وخصوصا الأطفال من أي جهة ـ يستدعي حربا شعواء على مئات آلاف المدنيين في المخيمات، وأما موت إيمان 2001 أو إيمان 2004 فلا يستدعي سوى الحديث عن “خطأ”! لا يا سادة، ان هذا الدم هو دم طفلة لها أم ولها أب.. لها إخوة وأخوات.. إن ذبحتموها ستتألم، وإن قتلتموها سنغضب وسيغضب معها شعب بأكمله اقسم ألا يخضع أو يركع حتى إن مزقتم أجساد أبنائه وبناته، فهي تقاسيم حزينة أهداها لنا أطفال تتفتت أجسادهم، اهدوها إلى كل جرح نازف يذود عن هذه الارض وهذا الوطن.
أراد شارون وصحبه أن يجني الفلسطينيون الثمن في غزة جراء صواريخ “القسام” في شدروت.. نعم لقد جنوا ثمنا باهظا: 26 طفلا..! من بينهم إيمان. انهم يستهدفون “الايمان” في شعب لا يريد ان يموت، ولكنه يسأل بأعلى صوته: كيف نقاوم الدبابة والصاروخ.. كيف نواجه الرصاص؟ وهل تكفي أكاليل الورود ردا على قذائف الدبابات؟ وهل يسمع صوتنا الصارخ وحيدا أمام صمت أمة العرب؟ أم أننا لا نسمع سوى صدى صرخات الموت تقول: “لماذا تركتم الفلسطيني وحيدا؟”.
انهم يستهدفون العقيدة والصمود، الرواية والذاكرة، انهم يستهدفون فلسطين. تحول الموت إلى مفردة يومية في شرفات البيت وفي المدرسة.. في الملعب وفي المشفى.. يموت الأطفال ليعيش الأهل في فلسطين.. لا ليعيش العدو في “نفيه دكاليم”.. يقولون في جباليا.
تذكرت صديقي الكاتب الرائع خيري منصور، عندما سقطت إيمان الثانية، لأننا كنا على موعد عندما سقطت إيمان الأولى.. وكتب آنذاك مقالا رائعا شارك بواسطته في جنازتها الحزينة.
تذكرته، ونحن نستذكر ما كتبه “مالبرته” الإيطالي حول ما اقترفه عسكريون ألمان. فقد قتلوا طفلة جميلة وتركوها على عتبة البيت. جاء الأب الثاكل ومددها في إناء وغمر جسدها المدمي بالنعناع، ودعا الجنرالات إلى وليمة وهو يقول لهم: “هذا هو عشاؤكم المتبل الأخير!”.
الفلسطينيون لم يغمروا “إيمانهم” بالنعناع ولا حتى بأوراق الأسى والصفصاف والدموع. لقد شهروا مهدها الصغير في وجه عالم فظ، غارق في اللامبالاة حتى أذنيه، إن كان له آذان تسمع، وعيون تبصر! سوف يسقط الجنرال لأنه الآن في خريفه تثقل خطاه من تخمة الأطفال ودم الأبرياء. إن زمناً تطارِد فيه الصواريخ والقناصةُ عصفوراً أو حمامةً لهو خاتمة الأزمنة كلها.
يا ابنتنا التي لحقت بأخواتها وأبقت زجاجة حليبها أمانة في أعناقنا، لك نقول: “أنت موعودة بترديد نشيد الاستقلال ذات فجر فلسطيني”. تبت يدا من صمت.. وتبت يدا من خنع. ويا جسر الأحزان، سميناك جسر العودة. عذرا ابراهيم..عذرا غزة !