العدوان الجديد على غزة يجري في ظل تحولات جديدة في المنطقة. هذه التحولات تشمل لاعبين جدد مع اجندات وأيديولوجيات جديدة. هؤلاء اللاعبون لا يستطيعون ان يكونوا محايدين كما رأينا في السابق.
رأينا التحرك المصري السريع الذي تمثل بزيارة رئيس الحكومة المصرية الجديدة هشام قنديل الى غزة حيث تبعه وزراء خارجية عرب اخرون ووزير الخارجية التركي وعلى رأسهم نبيل العربي الامين العام للجامعة العربية.
غزة اصبحت احدى اهم المراكز للحراك السياسي في منطقة الشرق الاوسط. التحرك التركي القطري واجتماعات القاهرة التي يقودها الرئيس المصري د. محمد مرسي من جهة أخرى نرى زيارة السكرتير العام للامم المتحدة بان كي مون الحالية إلى المنطقة ووزير الخارجية الالماني ووزيرة الخارجية الأمريكية لتؤكد أن المبادرة السياسية التي كانت دائما بيد إسرائيل هذه المرة هي بيد آخرين وخاصة الدول العربية وحماس.
مع ان الدول الاوروبية الاساسية والإدارة الامريكية تدعم اسرائيل في قصفها لقطاع غزة لكنها تعرف محدوديات هذا الدعم بسبب مصالحها المتمثلة في فتح علاقات جديدة مع الاسلام السياسي في المنطقة والأخذ بعين الاعتبار القلاقل السياسية في كل من دول الجوار: سوريا, لبنان والأردن. لكن لا يمكن فهم الزيارة المفاجأة لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون إلا بإحساس الإدارة الأمريكية بالتوتر المتصاعد, على ما يبدو, بين إسرائيل ومصر.
اسرائيل نجحت في اقناع العالم انها لا تستطيع السكون امام قوة خارجية تطلق الصواريخ على مدنها مثل ان فرنسا وبريطانيا لا تستطيع السكوت على صواريخ عشوائية تطلق على باريس ولندن وغيرها. لكن هذه المشابهة ليست دقيقة ففرنسا وبريطانيا لا تحاصر جاراتها كما تفعل اسرائيل مع قطاع غزة.
الجديد في هذه الحرب ان الاجواء الاسرائيلية مخترقة على يد الصواريخ الفلسطينية ولأول مرة منذ العام 1948 . سبق ذلك اختراق طيارة بدون طيار تابعة لحزب الله اللبناني للأجواء الإسرائيلية قبل حوالي الشهر. الصواريخ الفلسطينية وصلت مركز البلاد والقدس. الاعلام الاسرائيلي والمؤسسة العسكرية الاسرائيلية تستطيع التصفيق لمنظومة الدفاع ضد الصواريخ الجديدة “القبة الحديدية” لكن هذا لن يدوم طويلا وخاصة ان هذه المنظومة مع كل نجاحاتها لا تستطيع منع وصول بعض الصواريخ الى مركز البلاد. هذه الصواريخ لها أثرها النفسي, الاقتصادي والاجتماعي السلبي الكبير. بسياساتها العدوانية حكومة ليبرمان حولت تل ابيب , ريشون لتسيون والقدس إلى سديروت, نتيفوت واشكلون حيث اصبح اربعة ملايين مواطن اسرائيلي تحت مرمى الصواريخ الفلسطينية.
لقد اعلنت إسرائيل أهدافا “متواضعة” للحرب وغامضة إلى حد ما. فلم تعد تتحدث عن “القضاء على الإرهاب” أو “الإطاحة بنظام حماس” وإنما اكتفت بتثبيت “قوة الردع الإسرائيلية وإيقاف ضرب الصواريخ من قطاع غزة إلى داخل الحيز الإسرائيلي”.
الحصار على غزة كان وما زال هو المشكلة الاساسية. حيث تسيطر اسرائيل على البحر والجو وعلى جزء من البر وكل المعابر. اسرائيل ما زالت تقرر المواطنة للمواطن الغزي. تقرر الدخول والخروج من والى غزة. الكهرباء, التلفون والماء تحت سيطرتها. الحكومة الاسرائيلية تقرر المواد الغذائية في السوق المحلي وعدد السعرات التي يتعاطاها المواطن الغزي.
وكأن كل ذلك لا يكفي لوصف الحالة الغزية كواقع احتلال, خنق وحصار.
في المجتمع الاسرائيلي كانت وما زالت ثقافة الضحية , او ان اليهودي هو ضحية الارهاب الفلسطيني , هي احد مكونات هذا المجتمع. هذه الثقافة مدعومة بنظرة فوقية ان اسرائيل هي “فيلا في غابة” وليست “قلعة صليبية في عالم إسلامي” كل هذا يرتكز على ثقافة الخوف والتخويف من الآخر ان كان ذلك حماس, حزب الله , إيران أو اللاسامية العالمية.
مع أن الماتشو الإسرائيلي بقيادة وزير الحرب ايهود باراك طالب “بتركيع حماس وجلبهم للصراخ” من اجل إيقاف الهجوم على غزة. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي القيادة الاسرائيلية. من عملية “شتاء ساخن” إلى “قوس قزح” من عملية “أيام التوبة” إلى “الرصاص المصبوب” والى الحرب الحالية “عامود السحاب”. كلها حروب لم تستطع اسرائيل كسر شوكة الفلسطينيين الغزيين فيها. الحكومة الاسرائيلية عندها القوة ان تقرر متى تدخل الحرب لكنها لا تستطيع ان تقرر توقيت الخروج منها. الظروف تغيرت اقليميا وفلسطينيا وليست لصالح اسرائيل. هناك بوادر أولية لتذويت بعض القيادات الإسرائيلية العسكرية منها, وعلى رأسها الجنرال غيورا ايلاند, رئيس مجلس الأمن القومي السابق , لهذا الواقع الجديد , الذي يطالب اليوم بالاعتراف بحماس وبسيادته على غزة وأجراء حوار معه. هل سنرى “صحوة” إسرائيلية حقيقة أم ان هذه المواقف ستكون جزءاً آخر من محاولات جديدة لشرذمة الشعب الفلسطيني وتشديد الخناق على غزة ؟
الواضح أن حماس كسبت الكثير في هذه الحرب وإسرائيل خسرتها قبل دخولها وخسرت معها السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن الذي لم يتبق له إلا فرصة أخيرة لإنقاذ سلطته من خلال قبول فلسطين كعضو مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.