استاذي، استاذ من كانوا قبلي واستاذ من جاؤوا بعدي! لن ابكيك ولن ارثيك بل دعني أستدعيك كلما اشتاقك وما اغزر حضورك عندي، تطل علي من بين السطور ومن خلف الكلمات ترتبها وتزيح ما لا يعجبك منها ثم توزع النقاط والفواصل في اماكنها.
انك تسقط اليوم على شاشتي كما كنت تحط في الماضي على ورقتي بلا إذن او اشارة، تتابع حال النحو والصرف ومتانة الجمل ودقة التعبير وملكوت المفردات وعمق الوصف ثم تمد يدك نحو المدى وتشير على الخيال بأن ينطلق.
هكذا انت الى الآن رغم مرور احد عشر عاما على رحيلك، أراك في طرفة اثناء الحصة وبطلا لمشهد يخشاه غيرك ثم اتبين ملامحك في لوحة حتى وإن كانت لحملة انتخابية. كلها مواقع تخصك ولا احد يمكنه ان يتخذ مكانه في مقعدك، فهو بمقاسك سواء في لب الذهن او على حافة الذاكرة.
استاذي وصديقي، اناديك استاذي لأنك علمتني اكثر ما تتصور واشبعتني حبا وتعلقا باللغة العربية وبالعروبية والانتماء والاعتزاز القومي، وأناديك صديقي لأنك ازلت كل الحواجز بيننا وسمحت لي ولغيري بالاقتراب حتى بلغنا سفوح هامتك الشاهقة الى الآن.
من مثلك لا يجد حرجا بأن يحتضن طالبه في ساحة المدرسة ويتجول معه يكاشفه بحميمية حول خطأ ارتكبه؟ من مثلك لا يجد حرجا بدغدغة طلابه المراهقين بنكتة ظريفة؟ من مثلك لا يجد حرجا بدعوة طلابه الى اجتماع سياسي في المساء يكون هو خطيبه؟ من مثلك لا يجد حرجا في وأد أي خلاف فاحت رائحته بين طلابه؟ من مثلك لا يجد حرجا في التصدي لعنصرية ادارة الثانوية آنذاك ؟ من مثلك لا يجد حرجا برفض كرسي الادارة بعد رحيل دورون؟ من مثلك لا يجد حرجا بتوبيخ مخطئ بدون رحمة؟ من مثلك لا يجد حرجا بالاعتذار لطالبه على مسمع ومرأى من الجميع؟ من مثلك لا يجد حرجا بزيارة طلابه في بيوتهم؟ من مثلك لا يجد حرجا بأن يقهقه لتهتز ارجاء المدرسة؟ ومن مثلك لا يجد حرجا بأن يزمجر فترتعد كل اركان المدرسة ؟ من مثلك ترك لدى طلابه رصيدا لا ينضب من المحبة والتقدير حتى بعد عقد ونيف من الزمن على رحيله عن عالمنا؟
لهذا ستبقى فريدا وإن كنت حسنا. ارفع قبعتي تحية وإجلالا لذكراك وأضع زهرة على قبرك في يوم رحيلك استاذي وأستاذ جيلي، وهذا اقل ما اعترف به من فضلك علي.