درس في الديماغوغية – بقلم: جواد بولس
سيقال عنه الكثير، وسيكتب فيه ما يليق بمن يكون أقوى من النسيان.رحيل “نمر مرقس” بداية أعادتني إلى تلك البدايات التي يتنكر لها اليوم من في أحضانها تكشّفت له معاني الحياة. بدايات على صدورها غفونا، فكبرنا وصار الزغب في الوجوه لحى بها تقسم الرجال. معه ورفاقه حافظ النرجس على زهوه وصار للوطن معنى. كانوا شوكة في حلق من غنّى “لاستقلال بلاده” الجديدة.
رحيل “أبو نرجس” اليوم، يظهر عبث ما نقرأ ووجع ما نسمع، يعيدنا إلى ذلك التاريخ الذي يريدنا كثيرون أن نجهله أو ننساه. جيل البنّائين المعلّمين. الذين رفضوا وعود النخاسين والمرابين فبقوا في الوطن، ليحموا ترابه وليرعوا “الدراويش” ورفاقهم، أبناء الحقول والمحاجر، كادحين ملأوا في زمن النكبات والذل سماء الشرق عزّة وتحديًا وكرامة.
حنا ومحمود وصليبا وراشد وسميح وسالم وتوفيق وإميل وعلي وعصام وقوافل من وطنيين عتاة أشدّاء، كواكب تلألأت وصانت للعربية والهوية شرفًا وللبقاء في الوطن معنى وللإنسانية جزاءً. من هناك يا سادتي، من ذلك الجيل حبل الفضاء بالوطنية، في ذلك الزمان أنجبت الأرض سادتها عصافير الأساطير بلا أجنحة، من رمادها يولدون ومن أجلها.
من يريدنا أن ننسى ذلك الزمن الترابي؟ من يريدنا أن نمحو من ذاكرتنا أسماء كحنا نقارة ومحمد الحاج ومعاركهم من أجل بقاء وهوية وبيادر؟ من يريدنا أن ندفن وننسى شهادة توفيق طوبي ومايرفلنر، مناضلين كبيرين شقّا عباءة الغدر والقتل وكشفا فظائع “شدمي” وشركائه، آباء ما سبق وتلا من فظائع وجرائم. من يريدنا أن ننسى من صرخ وقال “سجِّل أنا عربي” في زمن كانت فيه الأعراب تزحف عند أقدام مناديب سامين ورعاة بقر. من يريد أن ننسى كيف حاول مجرم عنصري بسكينه الأجرب أن يقتل مايرفلنر، رفيق أبي النرجس، لأنه صرخ في وجه إسرائيل المعتدية المحتلة بعد حرب ١٩٦٧.
من يريد أن ننسى قادة يوم الأرض وآذار ذاك الذي صار نوّارُ لوزِه بلونِ الصبحِ أحمر؟ من يريدنا أن نخون ونقبل وطنيّة تبدأ في قناة وتنمو على “جزيرة”، لا ينتعش عليها إلا من يحلف بموزة سيدةً وربة نعمه ومستخلفٍ يجيد صناعة السوس وتأليب الفلسطيني والعربي على أخيه؟
أكتب، بأسف وملامة، بعدما قرأت على لسان قادة حزب “التجمع”، المنتشين بـ”نصرهم” وإدخالهم ثلاثة أعضاء لكنيست إسرائيل، ما أعتبره إهانة لجماهيرنا العربية ونضالاتها عبر العقود وما أعتبره إهانة لي ولكثيرين نرفض هذا الاستعلاء واتهامات الغير بهذه الكيدية وبدون وجه حق.
لست قاضيًا يحاسب ديماغوغية تلك التهجمات والادعاءات، لكنني أحذِّر أن من شأن تكرارها التسبب بأضرار جسيمة للمجتمع العربي ككل، فهذه المواقف التشاوفية تربّي الجيل على الحقد والكراهية وتؤدي إلى صقله بهوية مزيّفة جوفاء مبتورة عن ماضي الشعب العريق والمشرّف.
يعتبر قادة التجمع أن من صوَّت لهم فعل ذلك عن قناعة سياسية ونضوج، فأصواتهم عفيفة صافية طاهرة، بينما أصوات غيرهم نجسة ملوثة بالابتزاز والمصالح.قادة “التجمع” خوّنوا قادة “الجبهة”و”الموحّدة” لأنهم قابلوا في حينه الوزير بيغن ونقلوا إليه وأسمعوه معارضتهم واعتراضات أهل النقب على مشروع الدولة لسرقة ما تبقى من نقب. قادة “التجمع” طالبوا زملاءهم بالاعتذار على الملأ والاستغفار على “كبيرتهم” تلك. قادة التجمع ومن ورائهم كوادرهم يعلنون أن التجمع، وفقط التجمع، هو “الحركة الوطنية” وما تبقى من حركات وأحزاب لا يصح نعتها بالوطنية.
هل حقًا كانت أصوات التجمعيين عفيفة طاهرة؟! كي يصحُّهذا الادعاء على “التجمع”أن ينشر ميزانية الحزب التي رصدت للانتخابات ومصادرها وكيفية صرفها، خاصة وأن هنالك ما يشبه المعلومات عن ما رصدته قطر من ملايين يوروهات أطلقت يد الحملة الانتخابية إلى آفاق غير مسبوقة وحلَّقت في فضاءات جيوب عوائل ومخاتير فأقنعتهم بيورو-وطنية ركيكة. هذا علاوة على ما نشر في الصحف من ضبط أفراد من حزب قومي يُدخِلون مبالغ كبيرة من الحدود من أجل دعم “الأصوات النزيهة”.
لقاء بيغن لإسماعه موقف المغبونين العرب ليس خطأ ولا خطيئة وهو أقل خطورة ورجسًا من لقاءات بيرس ورؤساء بنك إسرائيل ومسؤولين حكوميين مختلفين، قابلهم قادة حزب “التجمع” وملأت صورهم صحف الدولة بما فيها مجلة “مالكم”. أم كان اسمها في ذلك الحين “ما لكم!”.
“التجمع” هو الحركة الوطنية الوحيدة في إسرائيل. هل يعقل؟! وكيف يعرِّف المعرفون هذه الوطنية أفلسطينية؟ وهي من حليب قرار عدل إسرائيلي! وطنية فلسطينية فما لها والبرلمان الصهيوني؟! هل قرأتم ما جاء في تصاريح قادة التجمع في محكمة العدل العليا الإسرائيلية؟ هل سيتعهد قادة “التجمع”أنهم لن يقفوا ولن يقسموا قسم الولاء لدولة إسرائيل عند استنابتهم في الكنيست؟ وهل سيعدنا النواب انهم لن يقفوا على نشيد “هتكفا” عندما يعزف في المناسبات الرسمية التي تحتِّم مشاركتهم؟ هل سينادي الوطنيون بضرورة طلاق الفرق الرياضية العربية من انتماءاتها التنظيمية مع “هبوعيل”، “مكابي”و”بيتار”؟ (هل يعي القارئأن معركة العرب الأخيرة كانت بين بيتار القدس ومكابي أم الفحم!).
كبرتُ في كفرياسيف. في ساحاتها وميدانها حيث كانت الجموع في الخمسينيات تأتيها “سجناء”. على ترابها نشأت حرًا وطنيًا ومن حليب نمورها رضعت وجيلي. وطنيّتي إنسانيتي. وطنيتي هويتي التي رسمها أول من رسمها ذلك الجيل من الكبار. رفقًا يا أبناء جلدتي واهتدوا أم نسيتم أحاديثكم عن الوحدة؟ أكان ذلك هراءً؟ ألم تقل اللغة: “تقاربت الجسوم وأي نفع/ يكون إذا تباعدت القلوب؟”.