إنَّ المكانة المميَّزة التي حظي بها رسولنا الكريم والتي لم تكن من نصيب أي كائن بشريّ عبر التاريخ لا تكمن في كونه مبعوثًا إلهيًّا فحسب، وإنِّما لكونه الوحيد الذي استطاع أن يؤسِّس، عبر التاريخ، كيانًا كاملًا متكاملًا ثلاثيَّ الزوايا والرؤوس: دين ودولة وأُمَّة.
لقد استطاع الرسول الكريم بحنكته وبصيرته وعقله السياسي الفذّ أن يدرك أنّه، من أجل بناء مشروعه العظيم، أَنَّه عليه التخلص من الرُّكن الأساسي الذي بُنِيَ عليه المجتمع في شبه الجزيرة العربية، ذلك الرُّكن المُتَمَثِل “بالعصبية القبلية” التي مفادها أن جميع أبناء القبيلة متساوون ضمن إطار القبيلة في الحقوق والواجبات المنبثِقة عن العصبية القبلية. فالبدوي مُلْزَمٌ بأن ينصر أخاه وليس له أن يتساءل أَهو ظالمٌ أو مظلوم:
لا يَسأَلون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وليس من شكّ أن هذا الواجب يقع، بادئ الأمر، على عاتق العشيرة التي يعنيها الأمر. إنَّ وطنية البدوي وطنية قبلية لا وطنية شعبيَّة، وهذا الشعور بالارتباط بقبيلة يحميها وتحميه هو المسمّى “بالعصبية”.
إِذن، أّدرك الرَّسول الكريم أن هذه العصبية من شأنها أن تكون حائِلًا دون تقدُّم مشروعه الأُمَمِيّ، ومن هنا أَحدث مصطلحًا جديدًا أَسماه “الأُمَّة” يكون الجميع فيه متساوين في الدين “الناس سواسية كأسنان المشط” “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”. وفي هذا الصَّدد يقول ابن خلدون: “إِنَّ الدعوة الدينية لعبت دورًا أساسيًا في بناء المجتمعات وإنّها، أي الدعوة الدينية، تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها وذلك لأن الصِّبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد التي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق”.
ولكن وللأسف الشديد فقد أصاب هذا الركن من الكيان المتكامل وهو “الأُمَّة” بعد موت الرسول الكريم وموت صاحبيه الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر، أصابه نوع من الخلل وأنحرف نوعًا ما عن المفهوم الذي أراده الرسول الكريم وصاحباه. لقد أطَلَّت العصبية القبلية، بعد رحيلهم، برأسها خاصة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان وبداية العهد الأموي الذي سُمِّيَ في الكثير من الأحيان، وعلى ألسنة الكثيرين وبحق، “الدولة العربية” وذلك لتفضيل الجنس العربي على باقي مكونات الأُمَّة الإسلامية. وقد استمرت هذه العصبية زمن الخلافة العباسية، حيث أصبحت عصبيَّة مركبَّة: قبليَّة وعرقيَّة، فالعصبية القبلية استمرَّت بين القبائل الغربية والعصبية العرقيَّة دعمتها وغذَّتها “الشعوبية” التي آمنت بغلبة العرق الفارسي على العرق العربي الذي انحطَّت مكانته مع مرور السنين. بناءً على ذلك، فإن أساس العدل ولُبَّ الديمقراطية الدينيَّة والدنيويَّة اللذَيْن نستشفّهما من مقولَتَي الرسول السابقتين “الناس سواسية كأسنان المشط” “لا فضل لعربيّ على عجميّ إلّا بالتقوى” قد أُفْرِغا من مفهومهما ومضمونهما اللَّذّيْن ابتغاهما الرسول الكريم. وهكذا، جيل بعد جيل، استمرَّت العصبية القبلية بين العرب واستمرَّت العصبية العرقية بين أبناء الأُمَّة الواحدة.
إِنَّ التكوين البشري والبنية الاجتماعية لمجتمعاتنا في العالم العربي في العصر الحديث تعتمد، في الغالب، على العصبية القبلية الموروثة من زمن الجاهلية. فلو أخذنا الدول العربية، عدا مصر، فإننا نرى أًنها مكوَّنة من مجتمعات قبلية عائلية لا من مجتمعات وطنية وشعبيَّة كما هو الحال في الدول الغربيَّة.
إِنَّ نجاح الديمقراطية التي أَوجدها الغربيون منوطٌ بالدرجة الأولى بِكَوْن هذه المجتمعات وطنية شعبيَّة مكوَّنة من مؤسسات متكاملة لخدمة أَفراد المجتمع دون تمييز، وهذه المؤسسات متجذِّرة متأَصِّلة في هذه المجتمعات ولا يمكن زعزعتها. فكأني بهذه المجتمعات قد فهمت واقتبست المعنى الذي رمى إليه الرسول الكريم بإِحداثه مصطلح الأُمَّة.
إنَّ مفهوم الديمقراطية الغربية لا يتَّفق ولا يتوافق مع مفهوم العصبية القبلية. ففي الدول الغربية يمكن أن يصل إلى سدَّة الحكم أَقلّ الناس نَسَبًا وعُزوَةً عائليّة. إِنَّ القيمة الفردية ومؤهلات الشخص هي أساس الحكم. أمَّا في أوطاننا العربية فالأساس هو العزوة القبلية العائلية. إِذن، قوة الشخص في مجتمعاتنا منوطةٌ بقوة قبيلته وعائلته وليس بقيمته الفردية ومؤهلاته الشخصية. ولعل السبب في هذا كلّه متواجد في قسمه بالعرف الجاهليّ المسمّى “منافرة” حيث من خلال هذا العرف الذي هو نوع من السباق، يحاول الرجال البرهنة أن عائلاتهم هي الأكبر.
لو نظرنا إلى التركيبة الاجتماعية في الدول العربية (كالعراق واليمن على سبيل المثال لا الحصر) لوجدنا أنها بنية وتركيبة قبليَّة مُكَوَّنة من قبائل عربية متعددة، وكل قبيلة منها تطمح إلى السيادة وتحاول إِقصاء القبائل الأخرى التي تحاول بدورها إِجهاض أي عمليَّة سياسية تستثنيها. من كلّ هذا نستشفّ أن وطنيّة الفرد العربي هي وطنية قبلية لا وطنية شعبية. إن مصلحة الفرد العربي هي مصلحة ضيّقة لا تكاد تتعدّى القبيلة أو العائلة بعكس مصلحة الفرد الأجنبي الذي يرى بالمصلحة الوطنية الشعبية مصلحةً عُليا يمكنه، من خلالها، أن يُحقّق مصالحه الشخصية. إذن، المصلحة العامّة في المجتمعات الغربية هي الهدف والمقصد الأمر الذي، وللأسف الشديد، نفتقده ولا نتبنّاه بسبب تركيبة مجتمعاتنا العربية القبلية العائلية.
ولعلّي قد استثنيت مصر عن باقي الدول العربية وذلك عائدٌ بالدرجة الأولى للتركيبة الاجتماعية البشرية للشعب المصري، تلك التركيبة التي أصبحت بغالبيتها عربية مسلمة بعد فتح عمرو بن العاص لمصر. فسكان مصر العرب هم جيش عمرو والكثير الكثير من الأفراد والجماعات الصغيرة (وليس القبائل) التي هاجرت لمصر. ولهذا فإننا نرى أن التركيبة القبلية السائدة في معظم الدول العربية قد خلت مصر منها.
بناءً على كل ما تقدَّم فإننا نصل إلى السؤال المحتوم: هل الديمقراطية الغربية هي أفضل ما توصَّل إليه الإنسان؟ وهل على العالم أجمع، بما فيه العالم العربي، أن يتبنّى هذه الديمقراطية؟ أم أنّ لكل شعب وأُمَّة عقلية وطريقة حياة ومعتقدات وتاريخ تحول بينه وبين هذه الديمقراطية المزعومة؟ جوابي هو إنّ الديمقراطية الغربية قد تكون مناسبة للغربيين ولكن ليس بالضرورة أن تكون مناسبة لشعوبٍ أُخرى. فالصين، على سبيل المثال قد أصبحت قوةً اقتصادية وعسكرية ضاربة في العالم رغم عدم تبنّيها للديمقراطية الغربية. من هنا نخلص إلى السؤال الأهمّ: ما هو نظام الحكم الأمثل لمجتمعاتنا العربية؟ الإجابة على مثل هذا السؤال المعقَّد والمحيِّر ستجدونها في مقالي القادم إن شاء الله.
دكتور فواز منصور – أستاذ الحضارة العربية والإسلامية ومركز اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية في جامعة تل أبيب.