لم نكن عربًا أكثر مما نحن عليه اليوم. وكأننا أقوام من ذلك الرمل، وظلال لتلك الرماح. يجمعنا “منسف” ويوحدنا شارب، عار وخنجر.
ما زالت “تسيل على حد الظبات نفوسنا” ولا “آمن من أرض”، وحمولة وخيمة. حسبنا أن عصر “همذان” ولى والقوس أخلت مكانها لشهادات العلا، والنشاب صار يراعًا يسود ويقود، ولكن ذلك منا بعيد، أبناء الفيافي كنا وما زلنا لها كبنات الجبال، أصوات مرتجعة من ماض لا ينفك يستحكم في عروقنا، وكالنير يثقل أعناقنا.
أخبار الدم المسفوك في ساحاتنا تمر علينا كلسعة بعوضة. القتلى يموتون بلا أسماء ويورِثون وصايا الثأر والحجر. قتيلنا اليوم، كقتيل “مراد”، لا يُبكى إلا إذا أخذت القبيلة ثأرَه. حسابات الذبح عندنا عِلْم، لها في الأيام ذكر وأصول. عيب على الرجال أن تبكي، لأن الصرامة والإمساك من شيم الفحول. في المجامع لا يُستفتى إلا صاحب المال والعصا. وهذه، طبعًا،لا تقوم إلا على من خشنت أكّفه وفاحت من تحت إبطه ريح الرجولة. إناثهم عشن على دين “قيس” وكالرياحين “حيث مال تميل”. يمتن ويعز عليهن بكاء. قبورهن لا تزار لأنّهن في الحياة، كما في الموت، حِملٌ وعورات.
“الناس كالناس والأيام واحدة”، وكما في زمن السقائف، هكذا في زمن القذائف، ها هي الأقوام تتنادى، تجتمع ذكورها، تصدح حناجر فحولها وترقص خناجرها. أيام قرانا هذه الأيام حافلة بقعقعة وهواؤها يزخر برائحة تشبه رائحة الليل والقلق. نحن على أبواب معارك هذا العصر، جحافلٌ من لحم تجتمع وشرط اللمّة دمٌ يوحّد، عصا وسواعد تنتخي لتضرب في يوم حر وشرر. عائلات قرانا تلتئم لتعلن ولاءها للمقدس الأول ولتنتخب فارس القبيلة، مقدامها ومن سيحمل الراية وسيكون الصوت والسوط ومن سيقارع وسيذود عن حياض الحمولة ومن في كنفها عاش ومن بها احتمى أو انتسب.
نقرأ عن عشرات الاجتماعات التي تعقد على مرأى ومسمع الجميع ولا يُسمِع حزب أو حركة أو جسم أي صوت أو همسة في حق ما يجري ويُجرى من أنهار فُرقة بيننا.
كأننا في زمن مضارب العرب تلك، يغيب صوت العقل، كما غاب من أجل فرس وناقة ورئاسة بلدية أو مجلس. يطغى التخلف، تحتفي رجعية، يسود خوف، يكون عنف ويختفي أمن وسلام. لا صوت يهاجم هذه الممارسات ولا يتجرّأ أحد على انتقادها أو حتى على محاولة نقاش من يقوم عليها. لماذا هذا الصمت المريب؟ ألأن الأحزاب العربية ذوّتت بممارساتها قواعد اللعبة القبلية وارتكزت على مفاعلات الانتماءات الحمائلية والدينية؟ لماذا هذا الصمت؟ وكلنا يعرف أن ما يجري هو الغاية وحلم “الفتى” الذهبي؟ وهل يخفى عليكم من يكون ذلك الفتى؟ ألا ترون ما يراه كل عاقل وحريص. من سيكون المستفيد الوحيد من عودتنا لفضاء المبايعات والاستقواء بعصي القبيلة والفخذ والبطون، ما انتفخ منها عن ملق أو من كثر حشوه وانفلق!
كيف لمن يتحدّث عن ديمقراطية منشودة وعدالة اجتماعية معقودة ومساواة مرجوة، أن يبرّر صمته ازاء ما يجري بيننا؟ كيف لمن تشدق بإيمانه بمساواة المرأة أن يصمت إزاء صور الخزي والعار وهي تعرض لنا أكوامًا من لحم خالية من صفاء انثى وبهائها ؟ كيف يمكن ان نقبل من يجاهر بمنع النساء من حضور هذه الاجتماعات، عضوًا في حزب أو حركة وأحيانًا كقيادي في ذلك الحزب والتنظيم ؟ كيف لنا أن نقبل بمن يؤمن أن النساء، في البداية والنهاية، سجاجيد لبعولهن، مطايا تشترى وتباع من أجل ذرية وقضاء وطر، أن يكون “علمًا” يقدم في مسيرات جماهيرنا ووجيهًا يتصدر جاهات صلح وتزاوج وعزاء؟ كيف لعاقل أن يصدق من يتباكى، من قادة و” قدوات”، على كبد حرة قطعها خنجر مغموس بماء “الشرف” المزيف الكاذب؟
واقعنا مرٌّ ومبكٍ. واقع مفاصله المداهنة وصمغه العهر. واقع عاد فيه مجتمعنا إلى قيم حسبناها اندثرت وبادت فإذ بها تعود وتطغى. واقع ما زالت فيه نساؤنا قرابين يقدمن كما قدمت قبائل العرب بناتها لأرباب عبدوها، أتعرفون عن قبيلة “مراد” التي عبدت نسرًا وقدمت له في كل عام إحدى بناتها بعد أن كانت تصيبها القرعة. في كل عام كان النسر يلتهم منها بنتًا يقطعها بمنقاره على مذابح الجهل والتخلف.
لن أسرد قصة ذلك النسر ولكن نهاية الرواية كانت في قوس رجل عاقل من “همذان” قرر أن يقتل النسر في ليلة قدمت فيها القبيلة ابنة اخته الصغيرة الجميلة قربانًا لنسرها المعبود. صوب الرجل سهمه إلى قلب ذلك النسر الفتاك فأرداه صريعًا. عاشت الصبية وهربت مع أمها وخالها لتحتمي بعيدًا عن غضب الثائرين. صحت “مراد” لتجد من عبدته جيفة هامدةً. ثار القوم وازبد العقال. لم يستسلم التخلف فسارت الجحافل في أثر قاتل النسر ليسجل تاريخ العرب واقعة أوقعت ضحايا وأجرت دماءً، وليبقى بطل الرواية نسرًا عاش ومات بعلة إنسان.
من تلك الأرض ما زالت ترد الحكايا والقصص. عن عرب يقال إنهم مثلنا نحن العرب. دمنا واحد، لغتنا واحدة، ثقافتنا واحدة، تاريخنا واحد ومستقبلنا واحد. من هناك من جزيرة العرب نمتح عزَّ تاريخنا ونمضي به نحو الشهب حيث تحلق مركبات فاتحي هذا العصر من ملوك وأمراء كالنسور في سماء الشرق والغرب. نسور قبائل اليوم تلتهم أكثر من قربان في العام وأكثر من عذراء ووردة. فهل قرأتم، مثلا،عن نسر اسمه الوليد يحلق في قصره العائم ويقاتل من أجل كرامة العرب وكرامته الجريحة لأن صحيفة معتدية تجرأت أن تدرجه في المكان السادس والعشرين من أثرياء العالم بينما يصر هو على المكان السادس عشر. وتسألني ما العلاقة بين نسر ووليد ؟ أقول قصص النسور متشابهة. من هناك، من ذلك الرمل، بدأت الحكاية وهناك في ظلال خباء، تعيش الحكاية و”ما أنتم إلا خبر فطيبوا أخباركم” وسلامٌ على منسف يوحد بيننا.
jawaddb@yahoo.com