انتهى الحلم برصاصة واحدة لكنها كانت كافية… كانت كافية لتقتل, للحظات معدودة, امال الكثير من مطالبي الحرية, والعدالة, من المنادين بالمساواة, إلغاء وشطب العنصرية من السجلات المتداولة آنذاك, هناك “في ارض الحرية”.
كان السود يعانون العديد من مظاهر الاضطهاد والاحتقار, خاصة فيما يلقونه من شركة خطوط حافلات المدينة التي اشتهرت بإهانة ركابها من الأفارقة, حيث كانت تخصص لهم المقاعد الخلفية في حين لا تسمح لغير البيض بالمقاعد الأمامية وعليه كان من حق السائق أن يأمر الركاب بترك مقاعدهم لنظرائهم البيض, وكان الأمر لا يخلو من السخرية من هؤلاء “النسانيس السوداء” كما كان البيض يطلقون عليهم! واستمر الحال إلى أن جاء يوم الخميس أول ديسمبر 1955, حيث رفضت إحدى السيدات وهي سيدة سوداء أن تخلي مقعدها لراكب ابيض, فما كان من السائق إلا أن استدعى رجال الشرطة الذين القوا القبض عليها بتهمة مخالفة القوانين, فكانت البداية… ولحسن حظ البشرية جمعاء وقعت هذه الحادثة على مرأى ومسمع فتى أزهرت فيه أماني الأنبياء, فتى ثوري يدعى د. “مارتن لوثر كينج”. تركت هذه الحادثة أثرا كبيرا في نفسية ذلك الشاب اليافع المهزوزة أصلا بسبب الأمهات البيض اللواتي كن يرفضن أن يلعب أطفالهن المطعّمين بالكراهية والتمييز من الصغر معه, والسبب! يعود للون جلده الأسود. وهنا نرى بأن محاسبته تمت بناء على “مكانته النسبية” وليست “التحصيلية”. فكانت هذه الحادثة له وللكثيرين من مؤيديه فيما بعد بمثابة رصاصة الانطلاق نحو الحرية والعدالة, نحو المطالبة بالمساواة والقضاء على العنصرية في نفوس أحفاد “إبراهيم لنكولن”, وعلى الرغم من أن أمريكا كانت على صفيح ساخن والأوضاع لا تحتمل وقد تتفجر في أيّ لحظة وتنذر برد فعل عميق يمكن أن يفجر انهارا من الدماء, بحكمته استطاع “مارتن” أن يمتص غضب الثائرين واختط للنضال والمقاومة طريقا أخر غير الدم. فنادى بمقاومة تعتمد مبدأ “اللا عنف” أو “المقاومة السلبية” أي السلمية منزوعة السلاح على طريقة المناضل الهندي مهاتما غاندي وكان يستشهد دائما بقول المسيح عليه السلام : “أحب أعداءك واطلب الرحمة لمن يلعنونك, وادع الله لأولئك الذين يسيئون معاملتك”. رصاصة الغدر التي أطلقها أحد المتعصبين البيض “جيمس إرل راي” والتي استقرت في جسد “مارتن” وبالتحديد في الجانب الأعلى من فكه وعنقه قد تكون قتلته حقا وقضت على جسده النحيل لكنها بكل تأكيد لم تستطع النيل من حلمه وفكره الثوري النضالي!!. صحيح بان جسده تحلل في التراب فـ “كل من عليها فان” لكن في فكره الحي استطاع أن ينثر فرح وبهجة الحرية في نفوس أبناء جلدته والكثير من الباحثين أشاروا إلى أن “الحرب الأهلية الأمريكية” انتهت وان حلمه تحقق أخيرا وبات واقعا ملموسا في الرابع من نوفمبر 2008 بعد الساعة 11 مساء بتوقيت شرق الولايات المتحدة عندما فاز رجل اسود يُدعى باراك حسين أوباما بأصوات المجمع الانتخابي ليصبح رئيسا للولايات المتحدة.
نعم انتهى زمن العبودية وولت معه العنصرية وأُعيدت أسماء الملايين من أبناء جلدته إلى سجل الناخبين. وأخيرا نالت الأقليات في موطنه على ابسط حقوقها الإنسانية, وهذا لم يكن ليحدث لولا السيدة التي تُدعى “روزا لويس باركس”, تلك السيدة الشجاعة التي رفضت في شموخ وإباء أن تترك مقعدها في إحدى الحافلات العامة, لكي يجلس عليه رجل ابيض, وهذا لم يكن ليحدث ايضا لولا متانة, صلابة وثبات د. “مارتن لوثر كينج” وتلاميذه الذين رفضوا الذل والرضوخ لسياسة التهميش, الإقصاء والتحقير التي ترفضها كل الديانات والكتب السماوية. وقفوا مشمرين عن سواعدهم السوداء متحدين دون خجل ما ارتكبه أجدادهم وآبائهم في حقهم من جرم, فهم اقتلعوا من التربة الأفريقية ليباعوا في الأراضي الأمريكية, ولكي تُستغل أجسادهم وأرواحهم لخدمة السيد الأبيض. تحدوا بأساليب إبداعية أبشع آليات البطش العاتية وفقط بفضل جهودهم وصمودهم استطاعوا أن ينالوا حقوقهم… فيا ترى أين نحن من هؤلاء؟, أين نحن من صمودهم ومن نضالهم؟ لماذا نتخذ عذرا من “النعام” مدرسة لنا, ندس رؤوسنا في التراب ولا نحرك ساكنا؟, أين “روزا لويس باركس” العربية الطيباوية؟, أين “مارتن لوثر كينج” العربي الطيباوي؟ إلى متى سنبقى مُكبلي الأيدي وننظر إلى هؤلاء “الغرباء” كأسياد لنا و”أدرى” بمصلحتنا؟, إلى متى سنبقى متشرذمين ومتناحرين؟, إلى متى ستبقى “دموع التماسيح” تحفر وجنتيك ولسانك لا ينطق إلا شعارات واهية بدون رصيد كلما تحدثت عن بلدك؟ لماذا نقدس مصالحنا الشخصية وهناك من هو أجدر بذلك التقديس؟ ثق تماما عزيزي القارئ بأنه لن يبقى لنا فيها مكان إذا لم نتحد ونتحدى معا عثرات الزمان!! غير بلدك بعقلك وتفكيرك المنفتح, فمِن أجدادنا تعلمنا أن “العقول كالمظلات لا تنفع إلا إذا كانت مفتوحة” ومن ثم بيديك. مصلحة بلدي هي مصلحتي ولن أكون عبدا إلا لربي…
- كاتب المقالة حاصل على B.A في موضوع الأعلام
وعلى الـ M.A في تخصص “الأعلام السياسي” جامعة تل-أبيب