“وأد البنات”, ولكن هذه المرة بحلة أخرى جديدة
على الرغم من كل التطورات المتسارعة والمتفاوتة التي شهدها وما زال يشهدها العالم بأسره بشكل عام, والمجتمع العربي داخل دولة إسرائيل على وجه الخصوص, ما زالت المرأة العربية مهمشة ومُستبعدة عن الكثير من المناصب العامة, بل يُحرم عليها أيضا, في كثير من الأحيان, اختراق مواقع ومجالات احتكرها الرجال وخصوها بأنفسهم, وجعلوها مناطق ومواقع محظورة على النساء: “عذرا منطقة رجالية مغلقة ومحظورة على النساء”.
ومن ابرز تلك المجالات هو الحقل السياسي والعمل فيه, فالمرأة ما زالت مهمشة سياسيا, وتحرم من خوض المعترك السياسي, بل حتى أيضا, وفي أحيان كثيرة تحرم من ابسط حقوقها, وهو التعبير عن رأيها بكامل حريتها, والسبب يعود إلى المبنى الاجتماعي “البترئيرخالي”, أي الذكوري- الرجولي, الذي يخيم ويلقي بظلاله على مجتمعات عديدة ومختلفة, أبرزها المجتمع العربي. وفقا لهذا المبنى الاجتماعي “المُصطنع”: الرجال متسلطون ولهم حصة الأسد في كل شيء, السلطة, السيطرة والصلاحيات جميعها مُركزة في أياديهم. للنساء وظائف معالمها معرّفة ومحددة من قبل المجتمع والمتسلطين فيه, وأية محاولة تمردية, ثورية من قبل النساء على هذا “السفر المنزل”, تعتبر وتفسر, وبشكل اتوماتيكي غير محسوب, خرقا وتعديا على العادات والتقاليد, على القيم والمعتقدات الراسخة في المجتمع والتي ليست بالضرورة صحيحة, بل وأكثر من ذلك كله, هناك من تأخذ به “الحمية الشيطانية” والرجولة المصطنعة إلى المضي قدما, عفوا “المضي خلفا”, إلى اتهامهن بالانحراف, والمنحرفات عن الثوابت المعتقد انه متفق عليها مسبقا وضمنا, وهذا ما شهدناه في قرى ومدن عربية قليلة, حين تجرأت وأقدمت بعض النساء على نسف وتفجير هذه الترسبات, وخرجن مطالبات بما يضمنه لهن بالمقام الأول القانون الرباني وقانون صنيعة بني البشر, القانون الإنساني وهو الترشح وخوض المعارك الانتخابية.
“ومن اعتمد على الله لا قل ولا ضل ولا ذل”
أما هذا الحرمان و”التمييز الجندري”, العنصري والظلم المجحف بحق النساء, منهم من يبرره باختلال الموازين الاجتماعية, وما يزيد الطين بلّة, أن منهم أيضا من يبرره بأسباب وذرائع واهية تُنسب للدين الإسلامي الحنيف, والدين أصلا بريء منها, فكيف لكم أن تتجرؤوا وتتطاولوا على الدين دون دراية علمية تخولكم ذلك, أم كلنا أصبحنا علماء “ومفتيي الديار” نشيع ونذيع, نحلل ونحرم كل على هواه ونفتي في أمور العامة, أم أننا حقا أصبحنا بزمن الرويبضة (والعلم عند الله). ما بالنا نقتبس من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الشريفة ما يخدم مصالحنا, ونقرأ أنصاف الآيات الكريمة ولا نتمها حتى آخرها, ولا نكترث بعلم الفقه- باب “الناسخ والمنسوخ”, أي آيات كريمة ذُكرت “بالنور”, جاء ونزل من بعدها ما ينسخها ويُبطل حكمها الشرعي!!. ولماذا نتسارع بالتهجم على المرأة التي تُزهر في نفسها نوايا خوض النضال الوطني أو الترشح, مستشهدين بقول الرسول الأمين سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات: “لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”, الم يسمع هؤلاء عن ما يسمى “بواقعية الإسلام” وان هناك آيات كريمة نزلت في مناسبات معينة وفي حق أناس مُعيّنين, وان هناك أيضا أحاديث قالها الرسول في حق أناس, لا يجوز ترديدها وتعميمها على كل أبناء وأفراد المجتمع. الم يعِ هؤلاء أن هذا الحديث الشريف قيل حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملّكوا ابنة كسرى عليهم؟!!. لماذا نساهم ونساعد البعض من “المُستشرقين” الذين حاولوا استغلال, على سيبل المثال, هذا الحديث من اجل التشكيك في عدل الإسلام بين الجنسين؟. لماذا يأخذ كل منا دور “العالم والمفتي” بالدين ونردد أحاديث شريفة دون وعي ودون معرفة خلفيتها ومقصدها وأهدافها؟. يا أخي مثلما لا يحق لك معالجة الناس ومداواتهم, لأنك لست بطبيب!!, يتوجب عليك أن لا تفتي في أمور تجهلها. “فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”} النحل:43{, علينا احترام علماء الدين وإعطاؤهم حقهم, “فأجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار”. والحديث, وإن كان ضعيفاً, معناه صحيح. فمن أقدم على الفتوى من غير تثبت ولا بحث في الأدلة فقد تسبب في إدخال نفسه النار. الم يسمع هؤلاء “المُحرّمون” مّمن يُحرمون على النساء أن يكن شريكا في صنع واتخاذ القرار وخوض المعارك والنضال الوطني؟ (لطالما التزمن فيه بتعاليم ديننا الحنيف) عن السيدة عائشة في غزوة بني المصطلق سنة ست للهجرة, وعن أم سلمة عند صلح الحديبية, وعن أم عمارة نسيبة بنت كعب النجارية في غزوة أحد, وكانت تباشر القتال بنفسها دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهكذا الحال في أم سليم بنت ملحان فقد كانت حاضرة يوم حنين مع زوجها أبي طلحة, وكانت حاملاً بابنها عبد الله بن أبي طلحة, وقد ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم في من ثبت معه عند الهزيمة التي وقعت أولا, وكان الغالب على دور النساء مُداواة الجرحى والمرضى ومناولة الطعام والشراب وغيرهن الكثير من النساء اللواتي خضن المعارك جنبا إلى جنب مع الرجال؟. الم يدرك هؤلاء أن القرآن الكريم لم يدع برؤيته المقاصدية الإنسانية مجالا للشك في أن إحدى مهماته الكبرى كانت ضرورة محاربة التمييز والتفريق الذي عانت منه المرأة في التاريخ قبل الإسلام؟!!, لذلك نجده ينص على أن المرأة تشارك الرجل في أصل الخلقة: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء…” }النساء:1{. وهي تشاركه في أصل التكليف والمسؤولية الشرعية من إيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان, وحج البيت, ومن هجرة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله, اولئك سيرحمهم الله” }التوبة: 71{. وهي تشاركه في مجالات الأعمال المباحة كلها: “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى, بعضكم من بعض…” }آل عمرا: 195}. ومن ثم تشاركه في الجزاء والعقاب في الدنيا والآخرة: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا” }النساء: 124{ ; “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيينّه حياة طيبة…”}النحل:97{. وهي مستقلة عن شخصية الرجل تماما: “للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن”}سورة النساء: 32{ ; “يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم…”}الحديد:12{, كذلك فهي تقاسم الرجل قيادة البيت الأسري كلا في مجاله: “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم”}النساء:34{, والقوامة في الاستخدام القرآني كما جاءت في ثلاثة مواضع: “الرجال قوامون”; “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط” }النساء: 135{ “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط”}المائدة: 8{, فهي تعد إحدى صفات المؤمنين رجالا ونساء, وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق منهج الشرع, والالتزام بالعدل والقسط, أما في البيئة الذكورية فالقوامة لها دلالات تُغاير الاستخدام القرآني تماما, فهي تعني القوة والغلبة لممارسة حق التهميش والسلب لحقوق المرأة وشخصيتها. بلا شك, يدعو الدين الإسلامي إلى “الوسطية” والاعتدال وعدم الإفراط في التزمت. وكما قال العالم الجليل محمد متولي شعراوي في إحدى كتاباته: “نحن امة وقعت ما بين الإفراط والتفريط”!! وهذا ما يرفضه الإسلام, “فمن اعتمد على ماله قل, ومن اعتمد على عقله ضل, ومن اعتمد على جاهه ذل, ومن اعتمد على الله لا قل ولا ضل ولا ذل” (علي بن أبي طالب كرم الله وجهه). عجبا, كيف للبعض منا يُحرّم ويحرِم في الوقت نفسه, بناتنا للخروج إلى الجامعات والمعاهد العليا والانخراط في مجالات مختلفة, في الوقت الذي صعدت فيه بنات الشعوب الأخرى إلى القمر!!.
وهناك من يحاول التملص من مسؤولية “التمييز الجندري” العنصري راميا بها على”عملية أو إجراء الجتمعة والتنشئة الاجتماعية الجندرية” (תהליך הסוציאליזציה והחברות המגדרית) الذي من خلاله يكتسب الفرد القيم والعادات والتقاليد وأنماط الحياة الملائمة للذكر أو الأنثى منذ الصغر, إذ يتم إكساب كلا الجنسين ما هو ملائم للولد أو البنت, وكما قالت الباحثة النسوية الأبرز في مجالها في إحدى مقالاتها العلمية د.”حنا هرتسوج” متذمرة: “تُولد البنت لتكون امرأة وأم فقط”. وهنا لابد لنا من وقفة تأملية, أليس نحن من أنجب هذا المبني الاجتماعي (الذكوري) التسلطي, الذي يحد من تطور الفتاة ويمنعها من إبراز قُدراتها (بالطبع بما يتناسب ويتلاءم مع شريعتنا الإسلامية). انظر كيف نخسر, ولأسباب مصطنعة, عنصراً أساسياً ومركزياً لابد من تفعيليه من اجل بناء مجتمع متين يرتكز على أسس سليمة فقد علمنا شاعر النيل حافظ إبراهيم أن: “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق”. أليس نحن من نفرض على أنفسنا ونقيدها بعادات وتقاليد وقيم ومعتقدات لم ينزل الله بها من سلطان, نتخذها مرجعا لنا فقط لان هذا ما وجدنا عليه آباؤنا!!.
“حين سكت أهل الحق عن الباطل, توهم أهل الباطل أنهم على حق”
على الرغم من ظهور بوادر للتغيير والتغير في مجتمعنا في هذا الخصوص, إلا أن هذا التغيير ما زال بطيئاً ولا يتماشى مع تطورات العصر السريعة. أخي المتلقي, التغيير والتغيّر حاصلان في نهاية المطاف لا محالة, لهذا علينا أن “نتغير” ونتعلم كيف نتغير إلى الأحسن, فقد علمنا الله وفي أول أية نزلت على رسولنا الكريم مخاطبا إياه وآمره:”اقرأ……”}العلق:1{ لأنه من يتعلم حتما سيُحسن صنع العمل. علينا أولا وأخرا التمرد على عقولنا المتحجرة الساكنة ونفوسنا التي تهوى وتميل إلى الكسل والاكتفاء بالتلقي من فلان وعلان!! أليس الكتاب هو خير جليس لنا في هذا الزمان؟ إذ يبوح لك بأسراره, تأخذ منه الكثير ولا يأخذ منك من الشواقل سوى القليل!!. لا تخجل بالمرأة فهي الزوجة والابنة والأخت ويكفي أنها الأم… علينا إكساب أنفسنا تعاليم وقيم ومهارات صحيحة سليمة من شأنها أن تنهض بمجتمعاتنا وتدفع بها قدما إلى الأمام, فحريٌ بنا أن نهتم بطريقة وكيفية تفعيل وتشغيل هذه الوظائف والمهام أو المناصب, بدلا من أن نهتم بمن يشغلُها, سيد أو سيدة, رجل أم امرأة, فقبلتنا يجب أن تكون: هل هو السيد/ة المناسب/ة في المكان المناسب أم لا؟ ….. أليس تهميش وإقصاء المرأة ودورها هو بمثابة وأد لأفكارها ولشخصيتها ولكيانها وبالتالي لها!!. أليس “التمييز الجندري”, هو “وأد للبنات” ولكن هذه المرة بحلة أخرى جديدة؟. هل حقا هنالك من يحاول بجهله إنعاش وإحياء “شبح الجاهلية” وعادة جاهلية قبيحة رفضها, بل حرمها الدين الإسلامي؟. هل أنت من هؤلاء؟!!. إذا كنت لست منهم, لماذا إذاً تجادل وتناقش يا “إنسان”؟ أم ينطبق عليك قول الله تعالى: “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا” }الكهف:54{. ختاما أتوجه إلى جمهور الإناث قائلا: “حين سكت أهل الحق عن الباطل, توهم أهل الباطل أنهم على حق”(علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه). أليس كذلك؟ إذاً: أين أنتنّ؟ أين النساء….؟؟!!!!!.
* الكاتب حاصل على: B.A بالاعلام. M.A بتخصص “الاعلام السياسي”.