“اكره العرب ليرحلوا”!!! بقلم: فالح حبيب

يُصرحون ويصرخون: لا للعرب; الموت للعرب; بدون الولاء والإخلاص لا تُمنح المواطنة; اكره العرب ليرحلوا الان…!!. يضربون ويبطشون. اعتداء عنصري هنا, واعتقال هناك. قتل هنا وجرح هناك والسبب, عدم تقبل “الآخر- الغير” كما هو وعلى حاله.

“طوعا أو تملقا ومحاباة للقوة الغاشمة, أو رغبة مزيفة والأغلب إكراها وخوفا…”

عزيزي القارئ, الصراع كان وما زال صراعا بين حضارات وثقافات مختلفة, وحتى نعي وندرك تماما ما المقصود, دعونا أولا, أن نعرف ما معنى حضارة (Culture). الحضارة, وكما عرفها الباحث الاجتماعي د. “ياعيل انوخ” هي: “مجمل المعتقدات والقيم, المبادئ, العادات والتقاليد, الثوابت الاجتماعية والوطنية, الرموز المتفق عليها, الأفكار وطرق التصرف, اللغة المشتركة لكل أفراد المجتمع” والتي تُنقل من خلال عملية “التنشئة الاجتماعية” (Socialization) إلى أبناء وأفراد المجتمع وتورث إلى الأجيال القادمة أيضا. عدم احترام ثقافة وحضارة “الآخر” وتقبلها كما هي وإبقائها على حالها, من شأنه أن يؤدي إلى ما يسمى “صراع الحضارات” ((Clash of Civilizations. بشكل عام, تسعى “قوى الاحتلال” إلى فرض هيمنتها وسيطرتها المطلقة والمحكمة على أبناء البلد الذي تم احتلاله, ضاربتا بحضارة السكان المحليين عرض الحائط, ومن وجهة نظرها, أي “قوى الاحتلال”, كي تحصل على حقوقك الكاملة دون تمييز أو اضطهاد, عليك التنكر لحضارتك وثقافتك المحلية والتخلي عنها, بل عليك تذويت حضارة “الغازي المغتصب” في نفسك ونفسيتك ونفوس أبناء جلدتك, وهذا ما يسمي بسياسة “الكور-هيتوخ” (Melting pot), أي خلط وصهر حضارة “قوى الاحتلال” مع حضارة السكان المحليين الأصليين لإخراج حضارة جديدة تجمع بين كلا الطرفين, تكون في غالب الأحيان, بل دائما بتوقيع وإمضاء “قوى الاحتلال” نفسها, لأنها تستخدم “أساليب صهر إبداعية”!!!: تهديد وترويع, تجويع وتشريد, ترحيل وتهجير, ترسيخ وتكريس “سياسة الفرق تسد”, زرع الفتنة الطائفية والفئوية والتناحر القبلي بين أبناء الشعب والوطن الواحد وأبناء الدم الواحد, نشر الإشاعات المغرضة, تكريس الشرذمة وإقحامهم في “دوامات” ومتاهات مقصودة بهدف “إلهائهم” وإشغالهم بكل ما هو “تافه” لاستنفاذ وتبذير وهدر طاقاتهم لتضليلهم ولتشتيت فكرهم عن قضيتهم الأساسية, المركزية, بل ويصل بها مرض “الأنا” وتقديس الذات في أحيان كثيرة إلى حد جنون تعذيب النفس البشرية بأبشع الأساليب القمعية والقتل أيضا, وهذا ما يؤدي بالتالي بالبعض إلى “الانصهار”       (התבוללות-Assimilation) بحضارات الشعوب الآخرة والتخلي عن حضارتهم المحلية, طوعا أو تملقا ومحاباة “للقوة الغاشمة” أو رغبة مزيفة والأغلب إكراها وخوفا…

وعليه, ها نحن نرى بان “قوى الاحتلال”, “القوى الغازية” والمُغتصبة التي تسعى لفرض سيطرتها وإحكام قبضتها الحديدية على أعناق الآخرين, والتي تتعمد تهميشهم وإقصائهم عن مواقع صنع القرار والتأثير, بل و”تقزيمهم” وتحقيرهم, لا ترتكز بسياستها على ما اسماه الباحث الغربي “د. جون موشنيس” بكتابه “علم الاجتماع”, “تعدد الحضارات” (פלורליזם תרבותי- Multiplicity of civilizations), أي لكل شخص وفرد الحق في أن يعيش محافظا ومتمسكا بجذوره وجذور آباءه وأجداده وثقافته وحضارته الأصلية “الأصل” دون الانصهار, بل تعتمد في سياستها على ما يسمى بسياسة “الاتنو-تسنتريوت” “الاستعلاء العرقي, التمركز الإثني, المركزية العرقية أو الاستِعراقية”                             (אתנוצנטריות- Ethnocentrism)- (اتنو-عرق, تسنتريوت-مركز), هو اعتقاد إنسان بأن أمته أو الجنس الذي ينتمي إليه الأحسن والأكثر اتساقًا مع الطبيعة وبالمعنى البسيط, القوى الغاصبة تضع حضارتها في المركز, في مركز الاهتمام, في القمة, وتحكم على حضارات الشعوب الأخرى فقط من خلالها, وأية جهة حضارتها مغايرة ومختلفة, تعتبر من وجهة نظرها, ووفقا لرؤيتها الأنانية, شاذة و”مختلفة متخلفة”, يجب “ترويضها”. ما لا شك فيه, أن هذه السياسة تعتبر من أبشع سياسات التمييز العنصري, فهي النواة الأساسية لسياسة “الأبرتهايد” التي تنتهجها “القوى الغاصبة”, الطامعة بمقدرات الشعوب الأخرى, بحيث أن المقصد الرئيسي والغاية الأساسية منها ومن إتباعها, هو طمس معالم وحضارات وثقافات الشعوب الأخرى, التي تجعل من نفسها بنفسها “لا حول لها ولا قوة”!!. بدون توسع أو إسهاب مطول, انظر من حولك, بل إلى وعلى نفسك, ستجد انك تعيش وتئن تحت وطأة هذه السياسة يوميا, إذ نعيش هذه التجربة المريرة في كل يوم, بل في كل ساعة ودقيقة وثانية على اجسادنا, حتى بتنا نتعايش معها وكأنها “روتين” وجزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية!!. وبناء عليه, نرى أن نظرية “نحن وهم أو هم ونحن” والمقارنات التعصبية الجنونية, ليست التنافسية الشريفة, كانت وليدة هذه السياسة العنصرية التمييزية والإقصائية… (انظر إلى سياسة الولايات المتحدة التي انتهجها بوش والتي تمثلت بسياسة “التُش” في الشرق الأوسط, أي يا أيتها الشعوب اتركي ما لك وانصاعي لأوامر حضارتي, فانا “الآمر الناهي”, وغيرها من الدول العظمى التي انتهجت السياسة “الكولونيالية” الاستعمارية).

“ظواهر تدق ناقوس الخطر”

الشعب اليهودي الإسرائيلي ومتخذي القرار, وبغالبيتهم العظمة, باتوا أكثر تطرفا, أكثر عنجهية, أكثر عنفا واشد تعنتا من أي وقت مضى, فها هي البوادر باتت واضحة جلية لنا وللجميع: ظهور شخصيات يمينية متطرفة ووصولها إلى سدة الحكم, ليس هذا فحسب, بل وأيضا باتت معتقداتهم وأفكارهم تيار مركزي ((Mainstream يسيطر ويتحكم “بدفة القيادة” ويوجهها حيثما يشاء!!. ظهور قوى من “قُطعان” اليمين المتطرف, “كشبيبة التلال” (נוער הגבעות- Hilltop Youth) التي تقوم بأعمال تقشعر لها الأبدان ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في المدن والقرى الفلسطينية. اعتقالات هنا واعتداءات هناك, “تدفيع الثمن” هناك وقتل هنا, مصادرة أراضي هنا, و”خطة  برافر هناك: إخلاء وترحيل أكثر من 30 ألف عربي من أراضيهم في النقب. دحر من “حُولوا إلى أقلية” داخل المدن المختلطة إلى إطراف المدينة ومنعهم من البناء والتطوير, وملاحقتهم المستمرة, بالإضافة إلى إتباع سياسة “المجتمعات المغلقة” (Gated communities), سياسة الفصل بين العرب واليهود بالمسكن وتحويل الأحياء العربية في المدن المختلطة إلى “جيتوهات” فقيرة. (انظر في هذا الخصوص إلى كتابات وأبحاث د. يوسف جبارين المختص بمجال هندسة المدن). في ظل هذا الإطار التمييزي, فشلت محكمة العدل العليا أيضا (عذرا, المحكمة العليا), بصفتها الملاذ القضائي الأخير في الحلقة القانونية بتوفير أية حماية قضائية جدية لحقوق المواطنين العرب المتعلقة بالأرض والمسكن, حيث ردت العليا الالتماس تلو الآخر في قضايا أساسية (ومصيرية) للمواطنين العرب, بدءا مثلا بالالتماس المتعلق بمصادرة الأراضي في الناحية الشرقية للناصرة كمقدمة لإقامة بلدة “نتسيرت عيليت” (في أواسط الخمسينيات) مرورا بالالتماس ضد مخطط توزيع الأراضي في النقب لعائلات يهودية فقط (في أواسط التسعينيات) وحتى الالتماس بخصوص التمثيل الملائم للعرب في اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في الشمال, حيث يشكل العرب أكثر من نصف السكان في بداية الألفية الثالثة. أما قرار العليا الشهير في قضية “عائلة قعدان” والذي منع الدولة من استثناء العرب من بلدة كتسير, فرغم كونه ايجابيا على المستوى القانوني الرسمي, فقد جاءت تفسيرات المحكمة بصورة “قواعد حقوقية فردانية” ضيقة لا تحمل أي بعد جماعي واسع يؤثر فعليا على واقع الأقلية العربية في مجال الأرض والمسكن, وبينما لا تترك الحكومة الإسرائيلية أي محفل دولي إلا وتتباهى بهذا القرار, فان عائلة قعدان نفسها “عانت الأمرين” حتى استطاعت نيل حقوقها بسبب العراقيل المتواصلة التي تضعها دائرة أراضي إسرائيل وبلدة كتسير, على أساس عنصري فظ. خوارط هيكلية “وزارية كارثية” تسلب الأراضي وتحيد عن مقصدها الأساسي وهو تطوير المدن من الناحية الجغرافية والاقتصادية بما يتماشى مع التغيير “الديموغرافي” والتغير الحاصلان, ومتطلبات السكان هنا, ولجان معينة “ختم سلطوي” ما هي إلا أداة ووسيلة تُفّعل وتُستغل من قبل السلطة, لتنفيذ وتمرير سياسات ونوايا حكومية مبيتة هناك. دعم الأحزاب اليمينية وأحزاب المركز “ذات الأجندة اليمينية”, وخمود الأصوات التي تطالب وتنادي “بالتعايش” وإمكانية “العيش المشترك”.. دمج عدة سلطات محلية تحت إدارة واحدة وسلب ابسط حقوق المواطن في دولة ديمقراطية ألا وهو حق “التعبير عن الرأي” (حق الانتخاب) في مدن وقرى عربية عديدة ومختلفة كمدينة الطيبة مثلا, التي ترفض وزارة الداخلية تحمل فشل إدارتها فيها, نعم اقولها وبكل وضوح انتم فشلتم فحزموا أمتعتكم وارحلوا.

“أيها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسماءكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا, و انصرفوا

وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة

و خذوا ما شئتم من صور, كي تعرفوا

أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء” (محمود درويش رحمه الله)… المحاولات المتكررة لسلخ الهوية العربية الفلسطينية و”تهويد” المدن المختلطة. كل هذه الأمور, والتي ذكرت اعلاه, باتت ظواهر تدق ناقوس الخطر أولا, وتشير إلى حجم التحول والتغيير الذي طرأ بداخل وعلى المجتمع اليهودي-الإسرائيلي الرافض تقبل “الغير-الأخر” وثقافة وحضارة غيره ثانيا…

“من الممكن إخراج شخص من داخل مستنفع ولكن لا يمكن إخراج المستنقع من داخله”

 الم يـأن الأوان أن يفهم المواطن والحاكم على حد سواء في دولة إسرائيل, أن العنف لا يولد ألا عنفا؟ وان الضغط يولد الانفجار؟ عليكم تقبل “الأخر-الغير” وفهمه دون السعي إلى “تهويده أو تغريبه”… عندها فقط ستتقارب وجهات النظر وستكون الأرض خصبة ومهيأة لأية محادثات دبلوماسية تعقبها عملية لسلام شامل وعادل مبني على مبدأ المساواة, يُنهي صراع عربي وفلسطيني – إسرائيلي استمر أكثر من 65 عام. الم يان الأوان أن تقضوا على سياسة “التخفيض والتحقير من شأن الثروة البشرية والحضارية والثقافية للعرب”؟!!. حقا, آن الأوان أن تقضوا على “الصور النمطية” و”المعتقدات المسبقة” التي رسمتموها في أذهانكم وأوهمتم أنفسكم بها وصورتموها كحقيقة مثبتة لأنفسكم!!, بل تُصرون وترفضون أن تشاهدونا إلا عبرها ومن خلالها!!, أم انه من الممكن إخراج شخص من داخل مستنفع ولكن لا يمكن إخراج المستنقع من داخله!!.

* الكاتب حاصل على: B.A  بالإعلام و M.A بالإعلام السياسي.