ونحن على أبواب ذكرى الإسراء والمعراج نتصفح هذه الحادثة الجليلة، نحاول الاستفادة من دروسها ورسائلها الثرية الجليلة.
نجد ان الإسراء والمعراج رسم لنا وللمسلمين معالم المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي النبيل الذي ننشده جميعاً ونتمنى أن نعيش فيه ولو أياماً قليلة، وان كان البعض في عصرنا يظن أن المجتمع الفاضل هو الذي يعمر بالبنايات ويشيد بالمنشآت وتقام أسسه على المال والثراء المادي والعلم العصري،فان ظنهم خاطئ لأنهم نسوا أن ذلك كله لا يفيد إذا لم ينصلح الإنسان من داخله لأنه هو- الإنسان-الذي يعمر تلك البنايات وهو الذي يشيد تلك الإنشاءات وهو الذي يتولى تشغيل جميع هذه الهيئات، فالمجتمع الذي لا يبني إنسانه على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة المستمدة من الدين، سيفسد في لحظه ما بناه في آلاف الأعوام.
إن الذي يحفظ البناء والعمران ليس نوع الاسمنت المستخدم ولا صنف الحديد ولا الرسم الهندسي، بقدر ما هو صاحبها – الإنسان – صاحب القلب التقي والضمير النقي الطاهر الذي ينفذ المشاريع. الضمير اليقظ الذي يراقب صاحبه الله تعالى فيمنعه من السرقة او النهب ومن الغش وعدم الإتقان، ومن خيانة الأمانة.
ومن هنا نفهم – والله اعلم- لماذا كانت حادثة شق الصدر التي حصلت لرسولنا الكريم عليه أتم الصلاة وأفضل التسليم قبل ان يبدأ رحلة الإسراء والمعراج ، لقد أمر ربنا سبحانه وتعالى ملائكته الكرام أن يوقظوه من النوم ويأخذوه إلى جوار الكعبة ويرقدوه على ظهره ثم يشقّوا عن بطنه ويخرجوا قلبه ويضعوه في طست من ذهب ويخرجوا منه حظ الشيطان ويغسلوه بماء زمزم ثم جاءوا بطست مملوء إيماناً وحكمة وحشوا قلبه به ثم ردوه إلى حاله.
إذن هي عملية تطهير للقلوب لتكون جاهزة ومستعدة للاستمداد من هدي ووحي السماء لتبني به نفسها ومجتمعها الفاضل فيتحقق لها الفوز والسعادة في الدنيا والفلاح والنجاة في الآخرة.لقد طهر الله تعالى قلب نبيه صلى الله عليه وسلم من حظ الشيطان قبل ان يفرض عليه الصلاة وقبل ان يرييه من عجيب معجزاته وباهر آياته، كأنه يقول لنا ان بناء المجتمع الفاضل يبدأ بطهارة القلوب وصفاء النفوس وتخليصها من حظ الشيطان ، وما هو حظ الشيطان فينا؟ انه الغش والمكر والخداع والبغض والخيانة والخسة والأنانية والتهور، والجبن والبخل والنميمة والغيبة والمشي بين الناس بالوقيعة والهمز واللمز والغمز.. كل ذلك وغيره من حظ الشيطان الذي دعا الرحمن إلى تطهير القلب منه قبل أن ينضم الإنسان إلى صفوف أهل الإيمان،الذين قال الله عز وجل في صفتهم:”وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍإ ِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ “فلن يتحقق إيماننا ولن تنفعنا صلاتنا ولا صيامنا إذا كانت القلوب مملوءة بالحقد والكراهية والعيون تلوح منها الخيانة وأفواهنا تظهر عليها الابتسامة الصفراء الخادعة ،وألسنتنا تنهش لحوم بعضنا بعضا.لن ينفعنا قول او عمل مادامت قلوبنا ليست على بعض –كما يقولون.
ولذلك يا أهل بلدي ان مصيبتنا كبيرة ومرضنا عضال لا يصلح معه التشييد والبناء ولا إصلاح القوانين لكن صلاحها لا يكون إلا بإصلاح القلوب ومراقبتها لرب العالمين ،كما قال الله تعالى :”يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم”.وعندها ستصلح أخلاقنا التي ساءت لنكون إخوة مؤمنين متماسكين متعاونين على البر والتقوى كالجسد الواحد يشعر كل عضو فيه بألم العضو الآخر فيألم ،وبفرحه فيفرح.
ومن هنا أيضا نفهم الحكمة من وراء اراءة الله تعالى لنبيه الكريم الأخلاق التي يحبها الله في صورة طيبة يفرح بها المؤمنون والمؤمنات والأخلاق التي يبغضها الله كالزنا وأكل مال اليتيم ظلماً والكلام الفاحش البذيء والربا ،والغيبة واللمز وخيانة الأمانة وغيرها في صورة قبيحة منفرة ؟ لعل تلك المشاهد جاءت حتى نعلم علم اليقين أن صلاح المجتمع لا يكون إلا بالبعد عن الأخلاق الخبيثة التي رآها صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج والتخلق بالأخلاق الطيبة التي رآها.
فإذا فعلنا ذلك واجتمعنا في بيت الله كما اجتمع النبي مع الأتقياء من عباد الله – أنبياء الله ورسله وملائكتة – على النقاء والصفاء والطهارة،عندها ننتفع بصلاتنا وتزكو أرواحنا وتسمو نفوسنا،ويصلح مجتمعنا ،ويتحقق فينا قول الله تعالى:” محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما”،وقول رسوله صلى الله عليه وسلم:” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
والمطلوب منا اليوم ونحن نحيي ذكرى الإسراء والمعراج ان لا يكون الاحتفال بها مجرد شكل وصورة جامدة بل أن يكون الإسراء حركة حياة وتفاعل مع قضايانا الحيوية والدينية، وأن تكون مناسبة المعراج عروجاً لأرواحنا من المادية التي أثقلت كواهلنا الى الأشواق الروحية والقيم الأخلاقية الرفيعة ،من البغضاء والشحناء إلى الوحدة والإخوة ،ومن سيء الأخلاق وقبيح السجايا إلى مكارم الأخلاق ومعاليها،ومن مرض القلوب الى صحتها وصفائها ،ومن كل أشكال الظلم والباطل إلى حيث الحق والعدل.
اللهم طهر قلوبنا وزكي أرواحنا وأصلح أعمالنا