كلّ يغني على “شيخاه” – بقلم: جواد بولس
ماذا يجب أن يحصل أخطر ممّا هو حاصل كي يستوعب “العُقال” بين المواطنين العرب في إسرائيل أنّ خطرًا حقيقيًا يتربص بوجودهم وأنّ منسوب أمن الفرد قد انحط إلى مستويات مقلقة؟
يكاد يكون التساؤل الوارد أعلاه تكرارًا لما كتبته في عشرات المقالات السابقة، إنّه لذلك تساؤل الحائرين. بعض الأصدقاء الغيورين يرون المخاطر التي يراها “النعاة” وأنبياء الغضب، لكنّهم لا يؤثرون الانضمام إلى رهط المحذّرين من باب إيثارهم الابتعاد عن “تهليع” العامة وتثبيط عزائم البشر. الاعتدال عنوان لمواقفهم، الاتزان راية والتمكن من ضبط الجرعات المعطاة تبريرات يتذرّع بها هؤلاء لوقوفهم وقفة المتفرّج أو عندما يزفون لنا العناوين أن الوضع ما زال معقولًا وليس بتلك الخطورة.
في عهد الحكومة السابقة واجهنا عددًا كبيرًا من التشريعات التي استهدفت حقوقنا كعرب في الدولة، وهي قوانين أضيفت إلى ما كان قائمًا، ومعًا شكّلت أنشوطة تضيق حول رقابنا من يوم إلى يوم.
مؤخرًا، وبعد تشكيل حكومة نتنياهو بينيت لبيد، تستمر كنيست إسرائيل بحملات تشريعاتها التي من شأنها أن تحكم إغلاق الحلقة حول رقابنا والبقية سترصدها كتب التاريخ والفضائيات التي رصدت “نكبات” رواندا والصومال ومؤخرًا في العراق وليبيا وسوريا وغيرها من تلك البلدان التي تعرض صور لحوم أبنائها شطائر دعائية تزاحم شطائر “الماكدونالدز” ودعايتها.
تعديل قانون “الإرهاب”، وبعده قانون “برافر” (قانون ترحيل عرب النقب والاستيلاء النهائي على مئات الآلاف من الدونمات) وما نشهده في هذه الأيام من تعديل “قانون أساس: إسرائيل -الدولة القومية للشعب اليهودي” تأتينا مجتمعةً، كبراهين أوّلًا، على أنّ النظام السياسي في إسرائيل عازم على المضي بسياساته القمعية بحق المواطنين العرب وهذه المرة وفقًا لما تمليه طبيعة نظام لا يصح نعته فقط بنظام عنصري وأبرتهايدي، وثانيًا: على أن ما عشنا بظلّه من فرضيات لم يعد كافيًا ولا صحيحًا في ظل ما ينمو ويستجد.
لقد كانت حكومات إسرائيل السابقة حكومات عنصرية، كالت بحق مواطني الدولة العرب بمكاييل تفرقة عنصرية احتدمت وتائرها ساعةً وانحسرت ساعةً، وفقًا لحاجة النظام وهوامش تحركه. بينما في السنوات الأخيرة يتشكّل في الدولة نظام هو أقرب للفاشية من حيث التعريف السياسي والممارسة القانونية. لقد جاء تحالف نتنياهو بينيت لبيد كاستجابة للحالة السياسية المتشكلة وهو لذلك يشكل وعاءً من واجباته إتمام ما يتوجب إتمامه بحق تلك الأقلية القومية المشاكسة: الترويض أو دفع الثمن! لقد عدنا إلى بدايات الرواية ولسان حالهم يلعلع بما تسمح به الاستعارة: “تريدون كيما تضمدونا وخالدًا وهل يغمد السيفان ويحكم في غمد”.. فهذه الأرض يا سادة غمد إبراهيم النبي والسيف وعد الله لشعبه المختار! والبقية عندكم! (المعذرة من صاحب البيت على ما حرف به من نص..)
في محيطنا يولد واقع جديد. منظومة القوانين العنصرية التي أقرّت وتلك التي في طور الإقرار ستكون بمثابة مساطر، بها ستقيس أجهزة الدولة سلوكيّاتنا وستحاسبنا وفقًا لقواعد الجريمة والعقاب. النظام الحاكم في إسرائيل يشعر اليوم أنّه في قمة قوّته ولذلك كل الطرق معبّدة لحسم جدلية دولة لم تبرأ من عقدة القنّاص، حكّامها يعتقدون أن ما لم يُنهَ في ذلك الصيف من الممكن إنهاؤه في هذا الخريف العربي. استطلاعات الرأي تشير أن أكثرية الشعب اليهودي تؤيد ما يُخطط له من ضربات وقمع بحق الأقلية العربية، أوضاع الدول المحيطة في إسرائيل تؤمن لها عمقًا من الطمأنينة وراحة البال، بعض الدول العربية والإسلامية تقف مع إسرائيل في خندق واحد ومعًا يشكّلون، عمليًا، حلفًا لن يتصدّع من أجل بعض ألاف من المشردين في صحراء النقب ولا من أجل بعض العرب الذين عاشوا من يوم نكبة على حافة الذاكرة والتشويه.
أمريكا وأوروبا بغربها وشرقها يتوافقون كعصابات من الضواري، “تتفندل”، العالم غابهم والصراع تحسمه الغريزة والقوة وقوانين البقاء.
والأهم، كما قلنا وكتبنا، يبقى هنا. هنا أوّلًا وهنا آخرًا. نحن الجماهير العربية الراسخة في أرضها، كنا في ذلك الصيف عقدة النجار فهل سيقدر علينا اليوم شاكوشه؟ كنّا يواطر أرسيت بأيدي ملّاحين مهرة فهل ذهبت قباطنة ونامت نواطير الميناء؟ مَن يقرر ماذا؟ لعقود خلت كانت رايات هذه الجماهير بيارق، رغم من نبح عليها، أمست رايات للقوافل. لم يخدعنا بريق سن مذهّب في فم سماسرة العار ولا قبلنا أن نغرق بسمن لم تدره أغنامنا ولا بعسل لم يقطر من زهور ودياننا. مَن يقرر اليوم ماذا؟ أمسينا أقلية مأزومة وقادة إسرائيل يستشعرون ذلك. لا قيادة موحّدة بيننا يشار إليها بالبنان، يركن إلى رجاحة عقلها وبراءة خياراتها. لا اتفاق حول تشخيص المخاطر الداهمة وبالتالي لا اتفاق حول آليات عمل كفيلة بمواجهة ما يحاك لمستقبل هذه الجماهير. أولويات أحزابنا وحركاتنا السياسية مخلوطة متضاربة، تعدادها كأعداد الولاة والراعين وذوي النعمة والفضل. “مسلّات” ذلك الزمن جديرة بالمتاحف. أليوم نحن بحاجة إلى وسائل من “الجيل الرابع والخامس” وأبعد. من لا يرى ما يدور حولنا، في سفننا وبحرنا لن ينجو من الغرق. مال الخليج لن ينقذنا. الصلوات وحدها لن تبرئ ما اعترى جلودنا من جرب. الحالة الإسرائيلية استوجبت وحدة بين “نتنياهو، بينيت ولبيد” وبيننا كأن شيئًا لم يكن، كلّ يغني على “شيخاه” فمن يقرر ماذا يا عرب؟