لك الله يا مصر! -بقلم: فاروق مواسي
في حين تشتعل ميادين مصر بالمظاهرات والمواجهات العنيفة ، يكتب لكم الاستاذ فاروق مواسي عن رحلاته وذكرياته عن أم الدنيا .
من سيرتـــي الذاتيـــة:
لك الله يا مصر! اليوم يكيد لك أعداؤك كل كيد، واليوم بداية تمزق وشرذمة، ولا يعلم إلا الله مصير مصر ما هو حالها ومآلها.
كتب لي الدكتور الصديق المصري عبد الخالق جبة: “يا فاروق، ادع لنا في مصر، فإننا والله نحس أن فيكم أنتم أحبتنا في فلسطين الصدق والإخلاص وحب مصر”!
ها نحن أيها الحبيب ندعو لكم بأن تمر هذه العاصفة بسلام وصفاء، ولا نملك غير الدعاء!
سأحدثكم في صفحتي اليوم عن لقاءاتي مع أدباء مصر في رحلتي الأولى إليها سنة 1980، علمًا بأن لقاءاتي تكررت فيما بعد، لكني لم أدونها.
هذه المادة لقرائي المتابعين اقتطفتها من “أقواس من سيرتي الذاتية” حتى تلمسوا هذا الحب لمصر ولأدبائها، وهذا أقل ما أستطيع تقديمه اليوم، فابقوا معي ولن تخسروا!
رحلتي الأولى إلى مصر
12-25 آب 1980
لقاءات مع أدباء
كانت رحلتي إلى مصر تهدف إلى السياحة أيضًا، وعلى هذا كان مبتغاي أن أشاهد الأهرام بعظمتها، وهذه لا تدرك إلا بالوقوف عندها، وأشاهد أبا الهول بعنفوانه وتحديه للدهر، والنيل ميمون الروحات والغدوات، بل كنت في (الأقصر) الشامخة الأعمدة (والكرنك) لا يكبر عنها إلا صوت المؤذن الخاشع في مسجد قريب”الله أكبر”، فتتلامس الروح والمادة في عناق غريب، وأسوان وسدّها وآثارها. ولعل زيارة المتحف المصري في القاهرة تضطرك إلى البقاء أشهرًا إن كنت من الدارسين، فتشاهد المومياوات والتماثيل وآثار توت عنخ آمون.
زرت متحف المَنْيَل في القاهرة، إلى جو الترف والبذخ الذي عاشته الأسرة الخديوية.
أما متحف الشمع بالقرب من حلوان فينقلك إلى تاريخ مصر المعبر عنه بالأشكال المجسدة- شمعًا وفنًا.
والمساجد في القاهرة آيات معمارية فنية لا بد من الاستمتاع بها، وخاصة مسجد القلعة ومسجد الحسين ومسجد قلاوون ومسجد عبد الناصر وغيرها وغيرها. ومعالم القاهرة تجذبك بأسواقها، وبشاشة أهلها، وضغط سيرها، وسهراتها، وفنانيها، وتناقضها بين البؤس والرخاء، والنظافة ونفيها، والرخص والغلاء، والترتيب والفوضى، وقديمًا قالوا”مصر أم الدنيا”.
لن أحدثكم عن الإسكندرية وبور سعيد وبؤس الريف والصعيد، ولا عن لقائي بالفنانات في الكازينوهات، ولو استوفيت هذه المقدمة تطويلاً وتفصيلاً لخرجت بكتاب لرحالة عصري جدًا قد يهمك لا أقل من ابن جبير، ولكني هنا أتناول الحديث عن الأدب والأدباء في مصر مما أو ممن لي به علاقة، فلنرحل مع الكلمات وأصحابها!
أمل دنقل:-
وصلت مكتبة (مدبولي) التي قرأنا اسمها على أغلفة كتب كثيرة، وسألت عن الشاعر أمل دنقل وكيف أهتدي إليه؟ أجابني العم مدبولي أنه غالبًا ما يكون في نادي (الأتيليه)، وهو نادي الفنانين والأدباء القريب جدًا من ميدان (طلعت حرب) حيث تقع المكتبة، وكثيرًا ما ترددت عليه، وتعرفت إلى عشرات الأدباء فيه.
ثم تعارفنا وأملاً -الذي كان لدى لقائي به يلعب النرد، وقد عجب الشاعر لأننا نعرف كتبه “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”،”العهد الآتي”،”مقتل القمر”، وأخذ يتصرف كشاعر- أعني بتناقض العظمة والوداعة، والكبرياء والتواضع.
قلت له: ما أروع القاهرة التي أراها أول مرة، و أشبهها بمدينة مينخن (ميونيخ) التي زرتها في العام الماضي، عملاقة مفاجئة رائعة.
قال أمل: لا تنس في غمرة حماستك أن فيها مظاهر بؤس وشقاء.
حدثني عن عمله في مركز الدراسات الآسيوية والأفريقية المنبثق عن الأمم المتحدة، وحدثني عن أجور الكتابة التي تدفعها المجلات في العالم العربي.
أنصت أمل بنصف ابتسامة، وأنا اقرأ له من شعره:
تفردت وحدك باليسر، إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي العسر، إلا الـذيــن يمـــاشـون
إلا الذين يعيشون، يحشون بالصحف المشتراة عيون
إلا الذين يشون، وإلا الذين يوشون ياقاتهم برباط السكوت
أبانا الذي في المباحث. كيف يموت وأغنية الثورة الأبدية ليست تموت؟!
كان المربي يوسف مطر- من كفر كنا وزوجته ليلى ينقّلان الطرف بيننا، وكان أمل يتحدث عن كل شيء إلا الشعر. قدم لنا عنوانه، ودعانا إلى بيته في موعد كان قد حدده للقاء الدكتورجابر عصفور، وكنت قد قرأت لجابر في الآداب، فقلت”عصفورين..”.
ومما يؤسف له أن الزيارة لم تتم في ميعادها، لأنني أضعت العنوان بين أوراقي الكثيرة التي أحملها، وقد اتصلت هاتفيًا به، فكانت تجيبني امرأة صرخت في وجهي في المرة الثالثة بعد أن ظنتني عابثا.
مع صلاح عبد الصبور:
صلاح وكيل وزارة الثقافة، صلاح يمشي إلى مكتبة على بساط أحمر. في غرفته عدة تلفونات ومكيف وسكرتيرات وندل، وأناس يروحون ويغدون. كنت أدندن قول صلاح.
وفيما بعد أعدت الأبيات أمامه:
لقاك يا مدينتي حجي ومبكايا
لقاك يا مدينتي أسايا
عندما وصلت الهيئة العامة المصرية للكتاب كورنيش النيل، وأشرت إلى الحاجب بأنني أقصد الشاعر صلاحًا، قال لي وهو يرنو إلي :”تفضل يا أفندم!“.
وصلاح ملامحه مصرية طابعية، وقد أرسلت له يوم أن أعلنوا عن فتح البريد بين مصر وإسرائيل كتابي عنه، والكتاب دراسة صغيرة عن شعر عبد الصبور المجدد، صدر عن معهد التطبيق في جامعة حيفا سنة 1979م.
وصلت الهيئة من غير موعد مسبق، ودخلت، فإذا بالشاعر يستقبلني هاشًا باشًّا. ثم أخذ يعرّفني إلى أدباء مصر الحاضرين في مجلسه :
القاص أبو المعاطي أبو النجا (أهلاً وسهلاً) – قصصك يعجب بها الشباب عندنا، – شكرًا!
الدكتور بدر الديب، الدكتور كمال نشأت (كان يعمل في جامعة بغداد، وقد لاحظت مدى اعتزازه بمصر، فمصر في رأيه هي التي تعرّف الأدباء والفنانين، لأنها في الطليعة)، وتعرفت إلى الشاعرة زينب العزب، الشاعر فوزي العنتيل، وغيرهم.
اعتذر صلاح عن عدم الكتابة إلي، وشكرني على الكتاب، عن دراستي الأكاديمية، وسأل:ماذا يستطيع أن يساعدني في دار الكتب في مجال بحثي للدكتوراة.
وبعد أن أجبته عن بغيتي، وشربت القهوة لم يعجبني الجو الرسمي، فطلبت منه تحديد موعد نستطيع فيه الخروج من الجدران الأربعة، ونسيت أن صلاحًا لا يملك دقائق معدودة من وقته، وعجبت كيف يقرأ، ومتى يكتب؟ فها هو قد أصدر حديثًا كتابًا نقديًا جديدًا” كتابة على وجه الريح” وأصدر مجموعة شعرية” الإبحار في الذاكرة”.
* * *
طلب الأستاذ صلاح من أحد الموظفين تصوير بعض الكتب التي أفتقدها في بلادي، وأمر بتخفيض خاص يستحق الذكر.
عدت لصلاح أساله: هل قرأت كتيّبي عنك؟
أجاب بصراحته المعهودة” قراءة تصفح“. كان صلاح يدفعني للحديث عن مشكلة القدس التي ثارت في ذلك الأوان، ولا أرى فيها – شخصيًا – أمرًا جديدًا، وكنت أدفعه نحو الحديث الأدبي، وعن الشعر والشعراء.
قال صلاح: تعرفت إلى دالية ربيكوفتش وأهرون ميجد في أحد المؤتمرات الأدبية.
سألته عن سبب ضعف الحركة الأدبية حاليًا في مصر، أين” الكاتب، والطليعة، والشعر، والفكر المعاصر، والمجلة؟” أين الملاحق الأدبية الجدية؟
قال صلاح: أعترف أننا في ردة أدبية نحاول أن نتداركها، فهذه مجلة”القصة“، وهاك العدَيدينِ الأخــيرين، وسنصدر مجلة “فصول“، وستكون على مستوى رفيع، سيحررها الدكتور عز الدين إسماعيل، ويساعده الدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل، وستكون مجلة متخصصة تتناول في كل عدد جانبًا هامًا، وسيكون العدد الأول خاصا بالتراث.
حدثته عن مجلاتنا “الجديد“ و”الشرق“ و”مشاوير“ التي أحررها، وتوقفت، وهنا سألوني ما هي المبالغ التي يكسبها الكاتب عندكم؟
قلت متباهيًا:
“عندنا الأديب العربي هو الذي يكتب، وهو الذي يرسل للمطبعة، وهو الذي يصحح البروفة، وهو الذي يوزع الكتاب، وهو الذي يخسر“
ابتسم الأدباء للنهاية التعسة، فوجدت من المناسب أن أثير مسالة نشر أدبنا في مصر، ومن كصلاح يعي ذلك؟
أجاب صلاح أنه سيأخذ دواويني الخمسة التي أهديتها له، وسيتفرغ لقراءتها لينتقي مجموعة شعرية من قصائدها، وسيعمل على نشرها في الهيئة العامة.
قال صلاح: سأسافر غدًا إلى اليونان، فاعذرني لأني لا استطيع اللقاء بك أكثر، وقدم لي مسرحية” مأساة الحلاج” في طبعة مكتبة روز اليوسف- 1980 بديباجة أعتز بها:
“إلى الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير والمحبة“. 19/8/1980 وتعانقنا على أن نلتقي.
في قاعات الهيئة العامة التقيت أديبــًا كنت أقرأ له في مجلة الآداب. عرّفته السكرتيرة: أستاذ مجاهد. قلت على التو: لعله الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد؟
عندما سمع ذكري اسمه كاملاً تعانقنا وكأننا صديقان التقيا بعد فراق. عجب مجاهد من تتبعي لكتابته، حتى أني ذكرت له مسألة قراره التوقف عن الكتابة، والعودة إليها، و كنت على علم بهما.
قدم لي مجاهد كتابه الجديد” علم الجمال” وكتب عبارات رقيقة، كما قدم نسخة أخرى للشاعر صلاح مما كان في حوزته.
مع الدكتور نبيل راغب:-
في مكتب الأستاذ صلاح التقيت باحثًا معروفًا هو الدكتور نبيل راغب – الذي تعرفنا إليه من خلال دراسته “الشكل الفني عند نجيب محفوظ“، فسرعان ما اشتدت الأواصر بيننا ودعاني إلى بيته.
لبّيت أنا والصديق المربي – الذي لا يغنّي – يوسف مطر دعوته، فاستقبلنا هو وزوجه كأحسن ما يكون الاستقبال، وأهداني كتبه بتقديم أعتز به.
سألت الدكتور عن كتابه عن السباعي ومنهجه، فأخذ يبرر لي دوافع نشره التي تدل على الانضباطية الأدبية التي يضطر إليها الأديب المصري، ولكنه وعدني أن يظل أمينـًا للحقيقة العلمية المحضة.
أعجبني إهداؤه كتابه”المدارس الأدبية“ إلى زوجه، إذ يكتب في الإهداء :
“إلى البلبل الذي ملأ حياتي تغريدًا إلى زوجتي“.
وأراني أعترف أن زوجته بلبل حقًا في جمالها ورقتها وثقافتها. فقد كانت تتفهم ملاحظتنا الأكاديمية بمعايشة سليمة، وتشاركنا في نقدنا اللاذع لبعض الظواهر غير الصحية في الحياة الأكاديمية.
أطلعني الدكتور راغب على مشروع موسوعة للقومية العربية، وبتواضع جم، وباحترام ماثل كان ينصت إلى ملاحظاتي الناقدة.
جماعة” أضواء” وأصوات” :-
في الهيئة العامة كذلك التقيت ببعض الأدباء الشبان من جماعة (أضواء) الذين حضروا أسوة بغيرهم يطلبون دعم صلاح لهم.
من الجدير أن أذكر أن جميع الأدباء الذين تعرفت إليهم أظهروا ارتياحًا عندما عرفوا هويتي. بل هم أبدَوا اهتمامًا بأدبنا الفلسطيني في الداخل، ونشاط النشر عندنا، وعجبوا كيف أننا نعرف المبتدئين منهم، وهم لا يعرفون عن أدبنا شيئا، اللهم إلا ما ندر وبصورة سطحية فجة.
سألني الشاعر حسن طلب من جماعة (أضواء) عن كتاب (الموت حبًُّا) وكان قد قرأ خبرًا في مجلة أكتوبر عنه. قلت له:
هذا كتاب جمعه كاتب من عندنا، وأصدرته (سفريات هبوعليم) كبادرة نية حسنة بمناسبة مبادرة السادات. قلت له رأيي الصريح في الكتاب، وهو أنه غير منظم، فقصيدة لعلي قنديل في أول الكتاب، وأخرى في آخره، والاختيار عشوائي، والتشكيل لا يدل على وضوح للشعر وفهمه.
ولا اذكر كيف برر حسن طلب فشل الكتاب، ولكني قلت له:يكفي أنها محاولة مخلصة لاطلاع قرائنا على أدبكم. فماذا فعلتم أنتم؟
ألح علي حسن أن أرسل له الكتاب على أن يرسل إلي منشوراتهم. فأرسلت، ولما يصل منهم شيء.
وعلى ذكر الأدباء الشبان أيضًا، تعرفت إلى جماعة أدبية منافِسة – ولا تعني المنافسة هنا صورة سلبية – تدعى” أصوات”، وقد أهدوني بعض كتبهم وهي :
” أعلن الفرح مولده” لمحمد سليمان”، و”أزدحم بالممالك” لعبد المقصود عبد الكريم.
ألح علي أحدهم، وكان قد عرف إعجابي بأمل دنقل وبحثي عنه في الأتيليـــه أن أقرأ مقالاً نشرته جماعة” أصوات” ضمن كتاب “أعلن الفرح مولده“، وعنوان المقال”رجال لكل العصور“، وأناقشه في اجتماع لهم في اليوم التالي.
قلت لهم: أتريدونني أن أقرأ في القاهرة، وأنا لا املك الوقت هنا للنوم؟
فيما بعد قرأت المقال، وتبين لي نقمة الأدباء الشبان على فرسان الأمس الذين يدفعون حركة الشعر العربي في مصر إلى ما أسموه “الردة“، وإلى التخلي عن كل منجزات الثقافة العربية التقدمية، ويوردون مثالاً على ذلك – أمل دنقل الذي يمر بأطوار تقليدية للنمو، تبدأ بكونه رافضًا، ثم يبرد دمه فيصير أليفــًا مسالمـًا، لينقلب في النهاية متصوفــًا حزينــًا.
وجماعة”أصوات“ هم بالإضافة إلى من ذكرنا:أحمد طه وعبد المنعم رمضان ومحمد عيد ومحمود الهندي، وقد تعرفت إلى أحمد طه وهو شاب مثقف عميق تمنيت أن يكون شعراؤنا الشباب بمستوى ثقافته، أطلعني على بعض دراساته عن النفّـري الصوفي كانت قد نُشرت في مجلة”الكاتب“، وحدثني عن اتجاههم الأدبي الذي يلخصه قولهم:
“إن الشعر العظيم يعني الثورة المستمرة الدائمة المستمدة من ثورة الإنسان على واقعه المزمن وعلى شروطه الراهنة باتجاه شروط أكثر إنسانية، فالمذاهب رمادية، ولكن شجرة الحياة خضراء”.
تعرفت إلى رفقي بدوي القاص صاحب”هرمونيا الحزن والعبقرية“، وله قصة طويلة بعنوان “أنا … ونورا وماعت“ ولفظة” ماعت” تتردد في أدبه، وهي كلمة مصرية قديمة تعني الحقيقة. من الجدير أن أذكر أن قصصه القصيرة نشرت في العديد من المجلات الأدبية المعروفة، وتمتاز بالطرافة والتجديد الشكلي والفني، وباختصار فهي لون لا نعرفه هنا في البلاد..
تعرفت كذلك إلى أديب شاب لم ينشر شيئــًا في بداياته، لأنه كما يقول يقرأ كثيرًا، ولا يتعجل النشر، اسمه سمير عبد ربه، وقد ذكر لي أن جماعة”أصوات“ ناقشوا ديواني” غداة العناق“، الذي أهديتهم إياه في لقائي الأول معهم، وقد رجوني أن أزودهم بسائر كتبي، فاعتذرت، لأن النسخ العديدة التي أخذتها مترددًا خوفًا من أن لا أجد أحدًا أقدمها له – قد نفـدت في يومي الثاني.
مع الدكتور عبد العزيز الدسوقي:
توجهت إلى مبنى مجلة الثقافة لألتقي رئيس تحريرها الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وهو مؤلف مكثر، وعندما علم أنني أحمل جوازًا إسرائيليًا توجس، ثم ما لبثت الكلفة أن رُفعت بيننا.
كان ينصت إلي، وأنا أرجوه أن يساعدني في الحصول على الكتاب الذي ألفه عن جماعة”أبولو”، وكنت أحدثه عما أعجبني في مجلة”الثقافة”، ومدى إعجابي بكتّابها. اتصلت القاصة جاذبية صدقي بالدكتور هاتفيًا، فعرّفها بي، ولما ناولني السماعة حدثتها عن وجودي، وأنني أدعوهم لزيارتنا عندما تتحسن الظروف، ثم حدثها الدسوقي- أننا معجبون بها، وندرس أدبها في مدارسنا، فكانت سعيدة جدًا لسماع ذلك وحيتني.
سألني الدكتور عبد العزيز عن زيارة الدكتور حسين فوزي لنا. قلت له لقد زار جامعة تل أبيب، واستضفناه في باقة بلدي، واستقبله العمدة وهو قريب لي، فاهتم بذلك كبير اهتمام، وأكدت له أنني لم أره، ولم أتعرف إليه شخصيًا.
طلب مني الدكتور أن أكتب”للثقافة” سلسلة مقالات عن الأدب العربي في مرآة الفكر العبري، لأنه يريد أن يطلع قرّاءه على هذه الناحية، كما طلب مني أن أكتب ثبتًا بأسماء مؤلفاتي حتى يشير إلي في عدد”الثقافة” الموشك على الصدور، وقدم لي كتابه عن محمود حسن إسماعيل- مدخل إلى عالمه الشعري، وعلق بديباجة رقيقة.
قبل أن أودعه أشار علي أن أزور الدكتور الفلسطيني المقيم في القاهرة كامل السوافيري، فهو يستطيع أن يساعدني في الحصول على كتاب”أبولو”، لأن الدكتور الدسوقي ينتظر صدور طبعة جديدة من الكتاب.
مع الدكتور كامل السوافيري:
كان الدكتور السوافيري قد علم قبلاً بنبأ زيارتنا له، فرحب بنا في بيته العامر، واطلعنا على مكتبته ومؤلفاته التي حرص على تجليدها تجليدًا فاخرًا، تطرقنا إلى الأدب الفلسطيني بما فيه الكفاية، ذلك لأنني لا احتمل التعصب لرأي وقبول المسلّمات، ولكن حسن الضيافة حال دون الملل، وكان الدكتور يشرح وجهة نظره بعربية فصيحة يحرص عليها، فاضطررت لمجاراته، ولكنا لم نسبح على موجة واحدة، فهو محافظ اشد المحافظة وأنا أتقبل التجديد برحابة.
في منزل العقاد:
عندما أشرفنا على أسوان كان تمثال العقاد يطل علينا من أرض فيها ضريحه، وقد قيل لنا إنه ستبنى فيها مكتبة وناد وقاعات.
وصلت قصر الثقافة لأطلع على جناح العقاد، فوجدت واجهات تحوي ألبسته وأمتعته وحتى عصاه، لكن المكتبة كانت مقفلة. ألححت على الموظف أن يفتحها، فقد احتملنا وهج الحر، وركبنا الطائرة ساعة من القاهرة حتى نصل إلى رحاب العقاد. اعتذر لأن المفتاح مع موظف آخر، وهو في إجازة، لكنه اتصل بالسيد محمود العقاد ابن أخي الكاتب، وسرعان ما كنت في بيت العقاد في شارع عباس فريد (كان المنطق أن يسمى هذا الشارع باسم العقاد)، واستقبلني أبو لؤي- ويعمل وكيل نيابة – وأم لؤي ناظرة مدرسة ثانوية- في بيت العقاد، جلست على كرسيه وإلى طاولته، وبجانب مكتبته وتصفحتها، وحصلت على بعض الكتب التي تنقصني في تحضيري لرسالة الدكتوراه عن مدرسة”الديوان”. وأخذ محمود يحدثني عن عمه، وعن نشر كتب العقاد التي يتولاها، وحدثني عن الذين زاروا المكان من دكاترة وأساتذة مستشرقين، ووعدني أن يوافيني بكل ما يستجد.
*ملاحظة – وصلتني رسالة منه – فيما بعد- يلح علي فيها أن أرسل له نسخة من الأطروحة للاحتفاظ بها.
في جامعة الأزهر:
عدت إلى القاهرة لأستطلع جامعاتها، والحديث عن الجامعات والدراسة الأكاديمية حديث طويل طويل، لكني أقول إنني في أثناء بحثي عن مكتبة جامعة الأزهر- قسم اللغة العربية- وقع نظري على إعلان عن مناقشة رسالة الدكتوراة للطالب المقدسي خليل الحسيني، وموضوع الرسالة “إسكندر الخوري البيتجالي”، ويشرف عليها الدكتور محمد فرهود السعدي، وقد تألفت لجنة المناقشة من الدكتور السعدي والدكتور محمد عبد المنعم خفاجة والدكتور محمد رجب البيومي، وثلاثتهم من المؤلفين المعروفين.
في قاعة المناقشة تعرفت إلى أكثر من”دكتورانت” فلسطيني جاءوا ليشجعوا زميلهم. ومن الطريف أن أذكر أن الضيافة تغمر المستمعين في أثناء المناقشة، حتى أن احد المحاضرين كان ينهمك دائمًا في تقديم السجائر من علبته للدكاترة، فإذا بهذا الشخص دكتور وشاعر معروف هو أحمد محمد عزب، وقد حدثني أنه يعمل في جامعة الكويت، وأنه سيصدر له كتاب عن الشعر العربي الحديث- نظرية وتطبيق. (قرأت فيما بعد في مجلة”المصور” أن الكتاب صدر).
تبدأ المناقشة بكثير من الجمل الإنشائية وكَـْيل المديح هذا لذاك حتى الغرق.
جدير أن أذكر أن الدكتور الجديد في معرض تقديمه ذكر أن الأستاذ محمود عباسي أعانه في جمع المصادر، وشكره على ذلك، فسررت لهذا العرفان بالجميل في المناقشة.
كانت ثمة ملاحظات لم أستسغها من بعض الدكاترة، كقول أحدهم:”إن الأزهر لا يجدر به أن يبحث شاعرًا صليبيًا، وأن اللغة العربية ليست لغة إسكندر- لكونه مسيحيًا”، وهنا تذكرت الأستاذ حنا أبو حنا وحرصه على عربـيته ولفظه السليم، وقلت:” أين أنت يا أبا الأمين!“
الدكتور فرهود السعدي:
وبقدر ما أعجبت بصحة ودقة آراء الدكتور البيومي أعجبت بجهود الدكتور السعدي الذي أشرف على أكثر من رسالة تختص بالأدب الفلسطيني.
قلت للدكتور: إنني أرغب بالالتحاق بجامعة الأزهر، وأن أكتب موضوعًا عن أدبنا الفلسطيني بإشرافك.
قال:”حتى تفرغ من الدكتوراه عن أدبنا المصري، وأهلا بك”!
ولما سالت الدكتور السعدي أن يساعدني في الحصول على كتبه التي ألفها عن”عبد الرحمن شكري شاعر الوجدان”، ووعدني أن يقدم لي الكتابين الآخرين الذين ألفهما عنه، اضطررت إلى أن اذهب إلى بيته قبل أن أغادر القاهرة للحصول على مبتغاي، فاستقبلنا نجله- وهو يدرس الطب- ولكني لم أحصل على مبتغاي.
في دار المعارف:
زرت أغلب دور النشر، وتفقدت مكتبات القاهرة ثم الإسكندرية، ولكني في”دار المعارف” وصلت أربعة موظفين قبل أن أصل إلى مدير الدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد. وهذه الدار أعرقها، ونعتز بإنتاجها. قال:أنت فلسطيني، فلماذا لا تذهب إلى عرفات لينشر كتبك. إن أمراء النفط بخدمتكم، وعبثـًا حاولت أن أقنعه أنني لا أتمكن من الاتصال بهم، وندمت على كل كلمة إضافية.
لقاءات لم تتم:
قال صديقي يوسف:لا بد من دردشة مع نجيب محفوظ، فهيا بنا إلى مقهى”جروبي”!
وصلنا المقهى فإذا بالنادل يقول إن نجيبًا في الإسكندرية- شأن كثيرين من أبناء القاهرة هذه الأيام.
قال آخر: إنه في مقهى على شاطئ النيل، وما أجمل المقهى الذي يطل على النهر وقواربه وانعكاس الأضواء في مائــه. وصلنا المكان، فأشار النادل إلى مكان جلوسه الأحب، وقال مضى قبل ربع ساعة. واحترنا أن نصدق من؟؟
ومحاولاتي للقاء فاروق شوشة باءت بالفشل فقد وصلت إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون مثنى وثلاث، وهيهات! وفاروق سميّـي محب للغة الجميلة، وثمة نقاط نلتقي فيها في ميدان الأدب واللغة، وقد كتبت له قبل ثلاث سنين عبر لندن، وما من جواب. بالمناسبة اعترف لي الكثيرون بأن سبب التلكؤ عن الكتابة كان خوفـًا من مضاعفات السياسة.
كما وصلت المجلس الأعلى للفنون والآداب لألتقي رئيسته الدكتورة نعمت أحمد فؤاد علها تفيدني فيما كتبتْه من المازني.
وصلت البناية فجذب نظري تمثال أحمد شوقي الذي لم يكن ذكره يفارقني وأنا أسير والنيل، ولكن نعمت كانت في إجازة.
وحاولت الاتصال بالدكتور عز الدين إسماعيل في جامعة عين شمس، وهيهات!
وحاولت الاتصال بالدكتورة نفوسة زكريا في جامعة الإسكندرية، وهيهات!
لكني اتصلت بطالب اسمه “زين الخويسكي” كان يستعد ذلك اليوم للحصول على الماجستير في موضوع عمل”لا”، وقد أعجبت بهذا الاتجاه في الدراسات اللغوية.
قلت لزين: تصفحت أسماء الموضوعات للرسائل جميعها في جامعات مصر، فوجدت رسائل كثيرة أعدت عن “نعم و بئس” و”الحال”، فلماذا لا تتعاون الجامعات، وتكون الدراسة لمرة واحدة، فلا يتناولها آخر إلا من جانب جديد.
اقتنع زين، وأشار إلى أن كل جامعة في العالم العربي تبعث نسخة من كل دراسة إلى جامعة عين شمس، وأن الجامعة المذكورة تصدر كشفـًا بالمواضيع.
قلت: هذه طريقة أصولية وفيها وعي أكاديمي.
خاتمة:
عدت وزوجي، وأنا أجشمها مشقة حمل الكتب التي نؤت بها.
قالت عفاف ساخرة: سنرى متى تشبع من هذه الكتب؟
قلت: لقد سافرنا واستمتعنا بالأثريات والمسرحيات والمشتريات البخسة وفنادق الدرجة الأولى (التي أنكرها علينا أمل دنقل) وأكلنا في”فلفلة” و” ماريلاند”، فلا أقل من أن نبدأ بسفر جديد عبر الحروف.
قالت هذا سفر مرهق، لقد أهلكتني، وأنا أجمع الكتب معك من سور الأزبكية ورحبة سيدنا الحسين ومكتبات القاهرة، فالأمر لله.
وحملنا أمتعتنا.
وصلنا البلاد.
ولما وصلناها تمنيت أن أعود مرة أخرى إلى مصر حتى أشرب من ماء النيل ثانية.
وأصدقكم أنني أقرأ اليوم ما قرأته أمس من أدب مصري، ولكن بنكهة جديدة، وفهم آخر.