كبرنا وتربينا على الحديث النبوي الشريف “من غشنا فليس منا”، ومع هذا فان الغش في الامتحانات في ازدياد مضطرد، وأساليبه في تطور متواصل يواكب العصر. وقد دلت بعض الأبحاث على ان نسبة الغش في مدارسنا العربية تزيد 8 أضعاف عنها في مدارس المجتمع اليهودي.
الأمر الذي يدق أمامنا ناقوس الخطر لنراجع نظرتنا المتهاونة مع هذه الظاهرة المرفوضة دينيا وأخلاقيا، والتي تشكل خطرا بالغا على الطالب وعلى المجتمع عموما، اذ ماذا يمكن ان ننتظر من رجل المستقبل الذي بدأ حياته بالغش، متجاهلا التربية القويمة والوازع الأخلاقي والديني لديه، فتأثير الغش ليس مقتصرا على فترة وجوده على مقاعد الدراسة، بل يتبعه في كافة مراحل حياة شخص بدأ حياته بصورة خاطئة، معتمدا على الخداع والحيلة كوسيلة لإخفاء كسله وفشله وضعف شخصيته.
ومع تسليمنا بخطورة وكارثية الغش في الامتحانات، لكنها ليست موضوع حديثي ومقصدي هنا، لكني ذكرتها كمدخل الى ما قد يكون اشد خطرا منها وهو الغش الاجتماعي الذي نمارسه جميعا – إلا من رحم ربك – في كثير من جوانب ومظاهر حياتنا ،ولعله الدافع وراء لجوء الكثير من طلابنا إلى الغش،ويبدو أنهم تشربوا الغش من بيوتهم وأسرهم ومن المجتمع والبيئة التي يعيشون فيها، والإنسان كما يقولون ابن بيئته وابن مجتمعه.
قد يكون كلامي قاسيا بعض الشيء لكننا اذا صارحنا أنفسنا سنجد – مع شديد الأسى والأسف – ان الغش يحاصرنا من كل الجهات: غش سياسي وغش ديني وغش اجتماعي وغش عاطفي وغش تجاري..
فالغش لم يعد سلوكا فرديا مذموما، بل بنية فكرية ما فتئت تترسخ كقيمة اجتماعية سلبية ننتقدها في العلن ونمارسها أو نباركها في السر، وهنا مكمن الخطر.
فالتاجر الذي يطفف في وزن السلعة، او يبيع سلعة قد انتهت صلاحيتها، او يخفي عيب البضاعة عن الزبون، يمارس الغش. والطبيب الذي يزيف شهادة مرضية لطالب حتى يحصل على تسهيلات لا يستحقها في الامتحان، او يمنح شهادة لفتاة ليزيف عفتها يغش.
والمعلم الذي يحضر إلى حصته متأخرا ويخرج منها قبل قرع جرس الانتهاء يغش طلابه. والموظف الذي يغادر مكتبه قبل انتهاء دوامه، او لا يساعد المراجعين، او يأخذ الرشوة يغش وظيفته. والأب الذي يخفي عيوب ابنته المرضية والسلوكية عن خاطبها، يخادع ويغش.
والخاطب الذي يتشبع بما ليس فيه او عنده حتى تقبل به فتاة الأحلام وأهلها يتخذ الغش والخداع وسيلة لتحقيق حلمه. وولي الأمر الذي ينتقد المعلمين والمدارس على تسهيلهم الغش في الامتحانات، فإذا كان الامتحان لابنه او ابنته لما جاء يتوسل المعلمين والمدرسة ان يساعدوا ابنه او ابنته، غشاش ومخادع.
والسياسي الذي يطرح البرامج الرنانة والشعارات الطنانة في التغيير والإصلاح، حتى اذا وصل الى السلطة، تنكر لناخبيه وبرامجه، لأنه يمتهن الغش والخداع.
وعندما نركب السيارات الفارهة ونرتدي والملابس الفاخرة لنوهم الناس بالغنى الزائف، فإننا نمارس الغش الاجتماعي المقنع. كذلك عندما نقترض لكي نشتري جهاز لاسلكي متطور او لكي نحجز رحلة الى الخارج فإننا نمارس الغش الاجتماعي.
والوالدان اللذان يظهرا لأبنائهما أنهما مثال الشرف والأمانة والصدق ، ثم تجدهما يرتشيان ويكذبان، إنما يغشان أبناءهما.
والحاج الذي يؤدي فريضة الحاج لكي يكتسب لقب “الحاج”، دون ان يغير شيئا من سلوكه،يخدع ويغش نفسه. وعندما نشبع الآخرين انتقادا وتجريحا ثم نمارس ما انتقدناه وأكثر منه،فإننا نكون بذلك ممارسين لأبشع صور الغش الاجتماعي.. وهكذا..
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لمن سأله متى الساعة فأجابه : “إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة”.
من هنا يتوجب علينا اذا أردنا فعلا تحجيم واجتثاث ظاهرة الغش في الامتحانات ان نجفف منابع ومظاهر الغش الاجتماعي في مجمل حياتنا من خلال تقوية الدوافع الإيمانية لدى الأفراد فالقلوب المملوءة بحب الله لا تقدم على الغش لمعرفتها بأنه يسخط الله ويغضبه . ثم نقوم بتربية أبنائنا منذ الصغر على التحلي بالأمانة وعدم قبول اى عمل فيه من الخداع والغش ،وان نعمل جاهدين على نشر ثقافة العمل والإتقان الذي حث عليه الإسلام ونبذ فكرة التكاسل والاعتماد على الغير،وفي سبيل تحقيق ذلك لابد من تكاتف جميع الجهات المعنية وهي: الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمسجد والمجتمع.