الماسنجر رصيف العشاق الافتراضي، يتواعدون على ناصيته ويتركون للخيال مهمة تزيينه بشجرة حبلى بالعصافير أو بموجة بحر تلطم حافته، أو يضعون الكراسي في زواياه ليصبح مقهى الرصيف مأهولاً بالأصدقاء. يتطفلون، يضحكون، يغازلون اللغة ويغزلون منها غضبا وضحكا وثرثرة..
في ماسنجر أنت لا ترى الآخر ولا تسمعه ولا تكلمه عملياً، وتستبدل آلية الحواس بالقراءة والكتابة والتخيل التبادلي، فتتطور تلك المهارات الذهنية، وتفوق حساسيتها ما تفعله الحواس في أي لقاء فعلي بذات الأشخاص لو أنك رأيتهم بعينيك وسمعتهم بأذنيك وخاطبتهم بلسانك.
في الماسنجر يصبح الناس رعاة الكذب الجميل، فكل ما يدّعونه أبيض، تدلّ عليهم الصور المعلقة على جوار النافذة، أزهارٌ، أطفالٌ، صورٌ بريئة.. وفي اللائحة أسماءٌ تختصر مواقفهم من العالم، تتغير حسب القناع الذي يختارون ارتداءه اليوم. يوفرون ما يتكبدونه في اللقاءات الشخصية، فمن يهتم حقا بما يرتديه وهو متوجه إلى الرصيف الافتراضي لينكشف على العالم؟؟ من تهتم إذا كانت بيجامتها ممزقة عند الكتف أو كان إصبع قدمها الكبير يخترق الجراب وعلى وجهها ماسك من خليط اللبن والعسل وتغطي جفنيها بشريحتي خيار؟ من يهتم إن كان يشرب النسكافيه أو الميرمية ودخان سيجارته يخنق أنفاس الهواء، ويريح نفسه بحرية من غازات عشاء ثقيل من الفول والفلافل؟ طالما أن الصورة الملتقطة بإتقان منذ عدة سنوات هي الصورة التي يمنتجها عقل الطرف الآخر ويحمّلها خلاصة الكلام الأنيق.
مع الوقت يصبح بعض الناس رعاة الصراحة الفجة، يشهرون أدقّ التفاصيل مكتوبة كنوع من الاختلاف، مستغلين فضول الآخر وإدمانه عادةَ اللقاء، وما تؤمنه تلك التقنية من الإفلات في الوقت المناسب، ساعة يتملكهم الملل وتسقط الأقنعة وتفرغ جعبة اللغة من سهام جديدة. ومن يملك حيلة تجاه انقطاع التيار الكهربائي أو دخول فايروس مفاجئ عشش في جهاز الكومبيوتر أو احتراق مبنى الاتصالات !!!
ولن تنفعك أي وسيلة لكشف الحجب، فالضغط على هذا البرنامج يؤكد انعدام الثقة في تلك العلاقات. في حين يكون الآخر غارقاً حتى أذنيه في حديث جديد على ذات النافذة، ينظر إلى اسمك المكلوم مشفقاً وأنت تنتظر على قارعة الرصيف الافتراضي مدموغاً بإشارة “بلوك”.
رسائل الحب على الماسنجر أو في المنتديات فقدت خصوصيتها ولم تعد مستمسكاً أو أسلوبا تهديدياً، فليس هناك خط يدوي ليتبع خبراء الخطوط رجفة اليد وشكل الحرف وتطابق التواقيع، ولا نوع ورق محدد ولا رائحة عطر مميزة. هناك فقط أسلوب كتابي متشابه ولغة فضّاحة وأسماء وهمية، اتبعها وستتعب رأسك حتماً، وحين يكتب شاعر باسمه الصريح رسائل حب (إليها) أو تكتب شاعرة باسمها الصريح رسالة ولهٍ (إليه) فمن السهل الادعاء بأن الـ (ها) تعود لها بعينها والـ (ــه) تعود أبداً إليه. أما الحقيقة فتسوح في الماسنجر هناك، على رصيف العشاق الافتراضي.
وليس من الإنصاف نفي الحب الماسنجري ونسفه بهذه الطريقة ! عارٌ علي ألا أعترف بوجوده بكثافة تنهك الأفئدة وتملأ فراغ الأرواح وتتحفنا بأروع القصائد والنصوص، حتى من أولئك الذين لا يلعبون الكتابة بحرفنة. لكنه دون أدنى شك؛ شكل من أشكال التعويض عن واقع جاف، وهروب من تكلّف التقاليد وجنزرة العادات ومحاذير مجتمع عالق في عنق الزجاجة. وهو صورة دقيقة للتكيّف العولمي للعاطفة، ودلالة ثاقبة على أن العاطفة لا تطيق حبسها داخل الجسد، بل يمكن لها أن تعوضه عن حاجاته وتهدئ بشبعها الراقي من غول جوعه.
الحب الماسنجري خاضع لشروط ظرفه وتناقضاتها، فهو يعاني المسافات ويقربها، يلغي الحدود بين البلدان ويصنعها، يتعالى على الأشكال والهيئات ويتخيلها، يحيي اللغات ويهدمها، يمجد الاختلاف وينبذه، يوقد الذهن وينهكه، يبني الوعود والأَيمان والآمال والمخططات، وما أن يغرس سوء الفهم وجهه الصغير بين طرفي حوار حتى تنهار كل القصور على شاطئ بحر الطحينة.
لا يكتمل حب لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، فطرفة عين تفسر ليلة كاملة من الجدل لتوضيح وجهة نظر بين اثنين على رصيف افتراضي، والإنصات الحقيقي لا يتحقق فيما الآخر يثرثر كتابيا وأنت تتصفح موقعاً أو تنهي لعبة ورق وتتجاوب من حين لآخر بوجه أصفر مستدير يبتسم ببلاهة. والحوار الديمقراطي ليس كلاما مكتوباً يمكن أن يضيع ربع معناه بين (إنتر وإنتر). إن الحب هو المنطوق الواعي، يتكامل مع تعابير الوجه وتهدج الصوت ورقرقة دمعة وإشارات الانفعال باليدين، إنه الزفرة والنفخة والآهة والشهقة، إنه تفاعل اللحظة التي تقرر فيها أن تلجم لسانك وتصمت لأنك في لهفة حية لسماع رأي الآخر.
بقلم: ابو الزوز