عزيزي رأفت زهيري، هل القى عليك احدهم تحية الصباح عند مروره بجوارك مع الفجر او بعد شروق الشمس؟ وهل تفقدك احدهم او زارك خلسة من عدسات الصحافة ؟ وهل سمعت احدهم يحكي لصغاره مأثرتك وتفاصيل بسالتك في ذياك اليوم المشهود ؟ هل تعلم اين اضاعوا شالك الاحمر الذي حولته انت الى لثام ميزك الجنود به اثناء المعركة فصدر الامر للقناص بأن أسقط ذا اللثام الاحمر ؟
لا عليك فالبعض يعتقد ان ضريبة وطنية سنوية تتلخص بقيمة اكليل من ورد رخيص يوضع فوق حجر رخام فقد معناه فتبول فوقه ثمل في الليل حتى كره الناس المرور بجواره.
كل ما يعلمه البعض عنك انك ذاك الحجر الاصم الذي كتب عليه اسم غريب نصب في طرف حديقة عامة كي لا يزعج روادها من متعاطي المخدرات. حجر توضع فوقه اكاليل الزهور مثلما يزينون سيارة العريس يوم زفافه. فلا الصغار يعرفونك ولا الكبار يذكرونك الى ان أضاعوك بين النسيان والاهمال وحولوك الى محراب لصك الوطنية يوما في السنة.
هل رأيت احدا يحاول تلميع رخامك وتطبيع اسمك وتنظيف نصبك حتى يزداد مقامك وينغرس في ذواتنا مثالك لتصبح جزءاً من تاريخ هذا البلد؟ هل طلب منك الخطيب الذي يتلو بجوارك خطاب العام الماضي وقد هزل صوته، إذنا ليتكئ على اسمك ويرسم نفسه حريصا على مقدرات هذا البلد ؟
رأفت، يا آخر من سقط في معركة من اجل اراضي الطيبة، رغم انك لست من ابنائها فقد صرت من اهلها وانت في الثانية والعشرين. يا من جئت في ذاك الصباح تحمل في يمناك الحجر وفي يسراك الشهادة، فألقيت الحجر وقبضت على الشهادة، لماذا لا تنهض من مرقدك وتطالبنا بالفدية بعد ان اهملناك وخدعناك وخذلناك واضعناك ونسيناك وأهديناك مكان الوفاء حلقات حزبية وصار وصالك اشبه بواجب مدرسي نسقطه ولا نحفظه ؟
عزيزي رأفت، هل جاءك احد صاغرا يستجدي رضاك عن موقف وطني ؟ هل سمعت وانت بيننا منذ ثمان وثلاثين سنة عن موقف وطني في بلد مثواك ؟ لا اظن ذلك، لن تسمع ايها الغائب العزيز عن مواقف كهذه، لأنك عشت لحظات عمرك الاخيرة وسط فصيلة دم في طريقها الى الانقراض.
اعلم يا صديقي ان اكليلا من الزهور لن يبهجك بقدر ما يبهج من تكرم به، واعلم ان عبق الزهر لن يصلك ولن تتبين المكتوب على الوشاح الاسود وسط الإكليل وهذه خيبة من وضعه. لذا ارجوك ألاّ تغضب إذ حضر صبيحة اليوم التالي عامل النظافة القادم من جنوب السودان، وخطف إكليل الزهر والقى به في شاحنة القمامة، لأن الشاحنة ليست كما تتصورها فالبعض يدللها ويسميها “ارشيف المدينة”.
ايها الصديق الغائر في النفوس والراقد في التراب، يا من ودعت والدتك في الصباح وودعتك هي في المساء، يا من فرضت علينا اسمك الثلاثي رغما عنا فأصبح مصطلحا جديدا في مفرداتنا “الشهيد رأفت زهيري”، يا آخر ابطال هذا البلد الشقي، اياك ان ترضى أن يكتب في بطاقتك – الاسم: رأفت زهيري، الجنس: حجر رخام ابيض، مكان الاقامة: ركن نتن في مخمرة، اسم الام: مجهول، اسم الاب: مجهول، لون الشعر: مجهول، لون العينين: مجهول، تاريخ الميلاد: مجهول، مكان الولادة مجهول، سبب الوفاة: مجهول!
ليتك ايها الفقيد ما زلت بيننا، فما احوجنا الآن بالذات الى بطل نزيه نقي صلب شجاع وشريف! ما احوجنا لمن يسير في المقدمة بلثام او بدون لثام، يشير علينا فنطيعه دون حسابات الربح والخسارة، دون الرجوع الى مقررات تنظيمية توظف حتى هذه المناسبة لزيادة الارصدة الملونة بالأحمر والاصفر والاخضر والبرتقالي. ليتك بقيت وسطنا لتمدنا بقليل من الحيلة والتدبير لننقذ ما تبقى من ارض علها تتسع لموتانا !