تطبيق نظريات ابن خلدون الاجتماعية والتاريخية على واقع العالم العربي السياسي والاجتماعي في العصر الحديث
ابو زيد، عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) ذلك العالم العربي العبقري الفذ، كيف لا وقد اعتبره علماء الاجتماع المحدثون استاذهم ومؤسس علمهم، وكيف لا وهو اول مؤرخ يضع فلسفة علمية للتاريخ حيث رسم في “مقدمته” الخطوط الكبرى لاول فلسفة تاريخية عرفها الفكر الانساني. ولعل احسن وصف لفلسفته التاريخية هذه ما كتبه احد كبار المؤرخين المحدثين ارنولد توينبي في كتابه الشهير “دراسة التاريخ” حيث قال: “لقد ادرك ابن خلدون فلسفة للتاريخ ووضعها في صيغة كتاب هو، مما لا شك فيه، اعظم عمل من نوعه لعقل بشري. ان هذا الكتاب لا مثيل له في الماضي ولا في الحاضر وفي أي زمان او أي مكان”.
ان الاهتمام الذي يحظى به ابن خلدون في العالم اجمع والتقدير الكبير الذي يتمتع به لدى عدد كثير من المع المؤرخين وعلماء الاجتماع منذ اكثر من قرن يمكن اعتبارهما برهانا كافيا على شهرته الواسعة.
ان قيمة “المقدمة” لا تتجاوز نطاق مضمونها الضيق وحسب، بل انها تهم مباشرة المفكر في العالم العربي اليوم. والواقع هو ان مشكلة الثقافة في العالم العربي الحديث والمعاصر هي مشكلة التواصل لتراث ثقافي عريق والانقطاع الذي يفرضه التقدم الحاسم في الحضارة الاوروبية.
السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا السياق هو: هل غاب عالم العصور الوسطى تماما عن العالم الذي تتحرك فيه اليوم الشعوب العربية؟ ان اسبابا وجيهة تحمل على الاعتقاد ان التطور الاجتماعي الاقتصادي، والاجتماعي السياسي والاجتماعي الثقافي في العالم العربي تعوقه بنى مادية وذهنية لم تتغير تغيرا عميقا منذ العصور الوسطى بقدر ما هو فكر مطابق لواقع اجتماعي تاريخي لا يزال حاضرا. ومن هذه الزاوية يقدم للمفكر معلومات عن الواقع الذي يعيش فيه ويؤصل في الوقت نفسه تفكيره في التاريخ ويدله على ما يتعين عليه القيام به.
ولعل مفهوم مصطلح “العصبية” هو الاهم من بين هذه البنى الذهنية التي لم يطرأ عليها تغيير وتغير واضحان منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا عدا الاربعين عاما الاولى للاسلام. فاذا استثنينا هذه الاربعين عاما الاولى من تاريخ الاسلام فان تاريخ الامة العربية قبل الاسلام وبعده ليس الا سلسلة طويلة من الخصومات ما بين القبائل، وهي خصومات منشؤها الحقيقي تلك العصبية التي دفعت الى حد التعصب. فالعصبية حسب ابن منظور صاحب “لسان العرب” ان يدعو الرجل الى نصرة عصبته، والتآلب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا او مظلومين، أي هي المحاماة والمدافعة. والغاية التي تجري اليها العصبية هي الملك والدولة، والدولة تستمر ما دامت قوة العصبية مستمرة. فالتشديد على اصل الدولة يكشف عن دور العصبية القبلية الصاعدة، والتركيز على نهاية الدولة يكشف كذلك عن دور العصبية المنقسمة او المتلاشية، فالملك والدولة كما يراهما ابن خلدون “انما يحصلان بالقبيل والعصبية” كما ان “الاوطان الكثيرة القبائل والعصبيات قلّ ان تستحكم فيها دولة، فعند اختلاف الآراء والاهواء يكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها” والذي عناه ابن خلدون في نظريته هذه انه اذا كان هناك عصبيات متعددة في دولة ما فلا بد ان تجمعها جميعا عصبية واحدة كبرى تكون اقوى من باقي العصبيات والا وقع الافتراق المفضي الى الاختلاف والتنازع.
فاذا اخذنا العراق ولبنان والاراضي الفلسطينية المحتلة وقارنا كلا منها قبل عشر سنوات وحالتها اليوم، لرأينا ان هذه الدول الثلاث تمتعت بنوع من الاستقرار النسبي وذلك نابع بالدرجة الاولى لتمسك سكانها بعصبيتهم الواحدة الموحدة (وهي التي نسميها في العصر الحديث بالقومية والشعور الوطني القومي). ولكن هذه العصبية (القومية) قد بدأت تتجزأ ففي العراق بعد ان كان العراقيون جميعا عراقيي القومية والعصبية اصبحوا عربا واكراد وتركمان واشوريين، واذا لم ترق لهم هذه التسمية قالوا نحن سنة ونحن شيعة. وليس لبنان بأحسن حالا فهناك المسلم السني والمسلم الشيعي والمسيحي والدرزي. اما فلسطين فقد انقسمت عصبيتها لتصبح عصبية علمانية وعصبية دينية. اذن تجزؤ العصبية الواحدة في كل من هذه الدول الثلاث ادى الى وقوع الافتراق المفضي الى الاختلاف والتنازع. وان دل ذلك على شيء فانه يدل على انه اذا اضمحلت العصبية الواحدة الكبرى داخل الدولة او تجزأت لعصبيات ثانوية، فانها أي الدولة تألف نفسها فريسة للحروب الداخلية واذا تضاءلت هذه العصبية تجاه الخارج فان الدولة تصبح عرضة لمهاجمة اعدائها المتأهبين دائما لمهاجمتها.
ومن نظريات ابن خلدون في الدولة والملك ان “من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم وذلك مما يضعف العصبية. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون اشرافهم على الفناء، واذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية والتهمتهم الامم”. وما اكثر الترف في قصور ملوك ورؤساء الدول العربية. ان الاموال التي تسرق من الشعوب العربية كل سنة بسبب الادارات الفاشلة (حسب دراسة اعلنتها محطة الجزيرة قبل شهر) وبسبب الفساد المستشري، تبلغ قيمتها 300 مليار دولار. اما نسبة الاموال التي تسرق من القروض الدولية التي تقدمها البنوك الدولية كـ”مساعدة” لدول “العالم الثالث”، والتي تودع في بنوك سويسرية في حسابات شخصية فنسبتها تعادل الثمانين بالمائة. اذا هذا الترف والانغماس في النعيم والاستشراء بالفساد، كما ادعى ابن خلدون، من شأنه ان يقصر من عمر الدولة وان يجعلها عرضة للفناء.
“ومن عوائق الملك، كما يدعي ابن خلدون، المذلة للقبيل والانقياد الى سواهم، وسبب ذلك ان المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها، فان انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة”. وفي هذا الصدد نقول: أي من الدول العربية هي سيدة نفسها وسيدة قرارها؟ جميعها تابعة وتقاد ذليلة لاوامر العم سام. وعل احسن مثال على ذلك انقياد الحكومة العراقية وراء الحكومة الامريكية الغاصبة. ان قلة الحيلة والهوان والمذلة والانقياد التي كانت من نصيب الحكومة العراقية تعتبر من الاسباب الرئيسية لفقدان العصبية، الامر الذي جعل العراقيين عاجزين عن الدفاع. فمن كان يصدق ان تسقط بغداد خلال ساعات وبدون أي مقاومة تذكر.
وفي فلسطين، فالعصبية الواحدة الكبرى التي كانت تجمع جميع الفلسطينيين قد انقسمت الى عصبيتين احدهما علمانية متمثلة بالسلطة الفلسطينية واخرى دينية متمثلة بحركتي حماس والجهاد الاسلامي . هذا كله احدث خللا داخليا في قلب العصبية الواحدة فتشتتت اهداف القوم واهواؤهم وآراؤهم حتى كثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها.
ومن نظريات ابن خلدون ان “الملك امر زائد على الرئاسة لان الرئاسة انما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له على الناس قهر في احكامه، واما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية اذا بلغ الى رتبة طلب ما فوقها واذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع وجد السبيل الى التغلب والقهر لا يتركه لانه مطلوب للنفس”. ان الفرق بين دولة الرئاسة في الغرب وبين تلك في الشرق هو ان دولة الرئاسة في الغرب تحكم حسب قوانين ودساتير متعارف عليها تحد من سلطة الرئيس فلا يجد السبيل، كما يقول ابن خلدون، الى التغلب والقهر. اما في البلدان العربية فدولة الرئاسة هي اسم مبطن لدولة الملك. فالسلطة هي سلطة ملكية بشكل رئاسي، فيها القهر والتغلب وانتقال السلطة بالوراثة ( بشار الاسد وعبد الله الثاني ومحمد السادس وجمال مبارك؟؟!! وسيف الدين القذافي؟؟!! وتطول القائمة.) ان صلاحيات الرئيس في الدول الغربية ليست كافية “لطموحات” رؤساء الدولة العربية الذين يحكمون رعاياهم “حتى الممات” بالقهر والظلم والاستعباد وكأنهم لم يسمعوا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا”. ورغم قهر الله عباده بالموت فان الرؤساء من هذه الزمرة الفاسدة ارادوا ان يقهروا ويظلموا شعوبهم حتى بعد موتهم وذلك بان قاموا بتنصيب ابنائهم رؤساء وملوكا ليكمل هؤلاء سياسة البطش والقهر والعدوان وكأن البلاد مزرعة ورثوها كابرا عن كابر.
ومن اقواله الهامة: “ان الامة اذا غلبت وصارت في ملك غيرها اسرع اليها الفناء، فاذا ذهب الامل بالتكاسل وكانت العصبية ذاهبة تناقض عمرانهم وتلاشت مكاسبهم وعجزوا عن المدافعة عن انفسهم فاصبحوا طعمة للاكل”. وكلنا امل وصلاة ان لا تكون نهاية العراق الفناء فكل المؤشرات والدلائل تشير الى تفتت البلد والى انزلاقه نحو الهاوية.
ان المجتمعات التاريخية التي يفكر ابن خلدون فيها مجتمعات لعبت الدعوة الدينية فيها معظم الاحيان دورا اساسيا فهو يقول: “ان الدعوة الدينية تزيد الدولة في اصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها، وذلك لان الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في اهل العصبية وتفرد الوجهة الى الحق”. ولعل احسن مثال على ما قاله ابن خلدون ما جرى مع دولة اسرائيل ومع السلطة الفلسطينية. فاليهودية قومية بقدر ما هي دين، ولعل رؤية الشعب اليهودي لهذه الحقيقة ودمجه لمفهوم اليهودية كقومية ولمفهوم اليهودية كدين وجعلهما وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، لعل ذلك من الاسباب التي ساعدت على قيام الدولة اليهودية وعلى استمرار كيانها. ولكن من الطرف الآخر نرى ان الانتفاضة الفلسطينية قامت في بدايتها على عصبية القومية ولكنها ما لبثت ان اضافت بعدا آخر للمقاومة ذلك البعد المتمثل بالعصبية الدينية. ولعل اندماج هاتين العصبيتين (تماما كما حصل مع الدولة اليهودية) هو الفتيل من وراء استمرار النضال والمقاومة الفلسطينيين رغم عدم تكافؤ القوى بين الطرفين. والخشية كل الخشية ان يكون هذا الدمج بين مفهومي القومية والدين عند كلا الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني (الامر الذي لم نشهد له مثيلا في العصر الحديث) الاساس لجوهر الصراع المستمر، لانه لو كان الامر كذلك فنحن اذا في صراع ابدي لا تحمد عقباه.
بقلم: د. فواز منصور، أستاذ الدراسات العربية والحضارة الاسلامية في جامعة تل-ابيب