تتزايد في الآونة الأخيرة الحيرة والتخبطات والتساؤلات لدى الأهل حول مواجهة تحديات التطورات التكنولوجية التي دخلت كل بيت مع الأطفال والنشء قبل البالغين. سبق هذه التخبطات والتساؤلات أحداث وحالات انتشرت على مواقع الشبكات الاجتماعية مست بشكل جارح ومؤلم بفتيات وفتية وأدت إلى جعلهم ضحايا ابتزاز وإسقاط خلقي في مجتمعنا العربي. ومما لا شك فيه إننا نعيش بعصر الثورة المعلوماتية والتكنولوجية لتسهل التواصل بين الناس وتلغي الحدود وتقرب ما بينهم من مسافات في نشر المعلومات وتبادل الثقافات. اصبح هذا البعد الايجابي لهذه الثورة, من ضروريات الحياة اليومية الايجابية. يستخدمها كل من الأبناء والبنات والأمهات والآباء, بحثا عن المعرفة والمعلومات ولتوسيع دائرة الثقافة الشخصية. ولكن الأسئلة التي تستدعي منا الاهتمام والبحث هي: كيف يؤثر كل ذلك على طبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية وكيف يؤثر على النشء وتطورهم الإنساني والأخلاقي؟ وهل هناك عملية ترشيد للاستهلاك التكنولوجي يساهم في تدعيم ثقافة الفرد الطفل كما النشء والأب والأم, أم أن هذا الفضاء مع الكم الهائل المعلومات والأفلام والصور هي نوع من المشاع كل يمكنه دخوله واستعماله دون قدرة على القرار لتصنيفه واستغلاله بشكل صحي وناضج؟
على ضوء ما نسمعه باللقاءات الاجتماعية بين الناس سواء في البيت او مكان العمل او اللقاءات بين الأصدقاء, هناك إشكالية كبيرة حول استخدام الشبكات الاجتماعية لدى الفئات العمرية المختلفة: الأم تستعمل الفيسبوك للنميمة والتفاخر بالإضافة لاستعمالات أخري يمكن ان تكون ايجابية ومطورة لوعيها وثقافتها, الأب أيضا استعمالاته للانترنت ودخوله مواقع جنسية مشوهة لسماته الإنسانية بالإضافة أيضا لاستعمالاته الايجابية لهذا الفضاء الواسع لتثقيف نفسه, الطفل يتعرض لكم هائل من المعلومات لا تساهم في تطوير قدراته العقلية بالإضافة لذلك فهي تكسبه خبرة كبيرة في معرفة التقنيات المراهقين والمراهقات أيضا لهم النصيب الأكبر في استعمال الشبكات الاجتماعية للتعرف على اكبر عدد من الأصدقاء والصديقات, وسهولة التخفي وراء الجهاز تمكنهم من استكشاف ميولهم/ ميولهن وأيضا إشباع رغباتهم/ن بشكل منفتح ودون ضوابط لأخلاق أو معايير اجتماعية مما يؤدي إلى إشكاليات عديدة وإسقاطات أخلاقية لكلا الجنسين. هناك مجموعات كثيرة للبالغين والبالغات من الأهالي مرتبطة بشبكات اجتماعية مثل أل”واتس أب” ,تشكل مراكز إخبارية محلية, تكثر فيها النميمة و تتواصل بديناميكية سريعة مثل الخبر العاجل للفضائيات العربية. إذا رغبت في معرفة اي خبر كان تربوي أم اجتماعي أو أي إشاعة ما, حتى حول ما يحدث بغرفة نوم احد الأزواج فما عليك إلا أن تسأل إحدى هذه المجموعات الصديقة في شبكات الواتس اب, حول نقل الخبر ليكون حديث الساعة في اللقاءات الاجتماعية المختلفة.
هناك مخاوف, حيرة وتخبطات, لكل من يود الانقطاع عن هذه الشبكات: “إذا أغلقت الفيس بوك لن اعرف أخبار العالم ولن أكون بالحدث” , إذا صادرت الايفون من ابني أو ابنتي اتهم بأنني قاسية عليهم ومتخلف أو متخلف ومتخلفة, إذا قطعت الانترنت من البيت سيحاسبني ابني وابنتي أنني أصعب عليهم, التحضير للامتحان او أداء الوظيفة البيتية وإنهم بحاجة للانترنت للبحث عن مواد علمية, وإذا سلمت من الأبناء في الملامة لن اسلم من الأصدقاء والصديقات بأنني شديدة في التعامل مع أبنائي وأنني غير ديمقراطية معهم, وان لدى جميع الأولاد والبنات انترنت وايفون وايباد وشبكات اجتماعية مثل الفيس بوك وواتس اب وكاميرا”. وطبعا جميع الأهل يسعون جادينلإسعاد أولادهم ابناءا وبناتا دون فرق من منطلق الإحساس والالتزام تجاههم بعدم الانتقاص من احتياجاتهم ومن ذهنية :” أنا بدي أوفر لأولادي كل شي وما بدي احرمهم مثل ما انحرمت أو زمانهم مش مثل زماننا وخليهم يعيشوا وينبسطوا مثلهم مثل أبناء جيلهم”.
ويبقي السؤال : معلش لازم الأبناء يعيشوا زمانهم مش زماننا ولكن أين مسؤوليتنا كأهل في ترشيدهم وتربيتهم وتحصينهم وحمايتهم من هذا الفضاء. لست ممن ينادي بقطع الانترنت ولا بقطع شبكات التواصل, ولكنني مع توعية الأبناء والبنات للحفاظ على حرمة أجسادهم, للحفاظ على براءتهم ولحماية أنفسهم من السلبيات لهذه التقنيات بالإضافة لايجابياتها الكثيرة.
قبل اكثر من عقدين التقيت مع صديقة لي في احد الأماكن العامة ولاحظنا سوية شخص يتحدث عبر الهاتف المحمول, بعد دقائق وصل صديقا له وطلبوا القهوة وكل منهم مشغول بمحادثة بهاتفه وبعد دقائق وصل صديق ثالث سلم وطلب قهوته وأكمل كل منهم الحديث عبر الهاتف انتهت القهوة وانتهى اللقاء دون ان يكون لقاء. تبادلنا أنا وصديقتي نظرات الدهشة على هذا اللقاء الغريب وافترضنا ان التقنيات ستبعد اللقاءات الإنسانية بين الناس. اليوم نلتقي في الأسرة ولكن كل منا مشغول بآلته. تحصل اليوم لقاءات اجتماعية شتى دون لقاءات ودون حديث ودون تواصل إنساني لدرجة أننا اصحبنا نفتقد للغة المتحدثة واصحبنا عبيدا للغة للجهاز الصغير بأيدينا. استبدلت لغة الكلام والحوار بلغة الأيادي إما متكتكة على شاشة الجهاز وإما تهم لتضرب. ليس بالصدفة استشراء العنف على أشكاله المتعددة بمجتمعاتنا. ليس بالصدفة فشل أبناءنا وبناتنا بمواضيع اللغة العربية. ليس بالصدفة نرى ونسمع ونعيش علاقات مشوهة ليس لها هوية إنسانية, ليس بالصدفة يستنهض الأهل اليوم الهمم للتساؤل حول هذه الآفات ب : ما العمل ومن ينقذنا وينقذ أبناءنا وبناتنا
ما السبيل لمواجهة هذه تحديات الثورة المعلوماتية والفضاء المفتوح على مصراعيه للمعلومات التي تطور وتغني العقل والوجدان وتصقل فيهم الحس الإنساني والاجتماعي والخلقي وللمعلومات التي تشوه أفكارهم ومشاعرهم وتجعلهم وحوشا يأكل كل منهم الآخر. لا يسلم الصديق من صديقه ولا الصديقة من صديقتها وحتى الأقارب من بعضهم البعض؟ وكل ذلك من خلف قناع جهاز صغير طوره عباقرة العصر ويحمل بكف اليد, خفيف الظل ولكن في باطنه فضاء واسع يخفي وحشا ضار لمن يجهل استغلاله بالشكل الصحيح .
أشارككم بعض المقترحات المتواضعة من منطلق خبرتي الأكاديمية والتطبيقية في مجال علم النفس الاجتماعي ومن منطلق خبرتي في مجال كتابة وتدريب برامج التربية الاجتماعية والتمكين المجتمعي والأسري ومن خلال لقاءاتي التدريبية مع الأمهات ومع المربين والمربيات لسنوات عديدة.
هناك مثلث مساوي الأضلاع في المسؤولية والعمل المشترك بلغة واحدة لمواجهة هذه التحديات: الآهل والمدرسة والمجتمع
الأهل: هناك حاجة لتدعيم قدرات الأهل على التواصل الإنساني مع أبناءهم وبناتهم أطفالا ومراهقين. عملية التواصل الإنساني هي عملية مكتسبة تعليميا وعلى المؤسسات الجماهيرية فتح أبواب التواصل مع الأهل وتدعيم قدراتهم من خلال ورشات عمل وندوات تثقيفية بعيدا عن المؤتمرات الرنانة . ورشات تتيح للآهل الأمان للتعبير عن مشاعرهم تجاه الصعوبات التي يواجهونها دون التحكيم عليا أو التنظير بافعل ولا تفعل.
المربين والمربيات: هناك حاجة لتدعيم قدرات المربين والمربيات على التواصل مع طلابهم وطالباتهم دون الحاجة لتفعيل قوة الصلاحيات وإنما من خلال التواصل حول مشاعرهم وحول تخبطانهم دون اللجوء لحشر النظريات في رؤوسهم. دور النظرية لمن يلتقيهم يشكل عنصرا موجه لفهم الأمور وليس لعلمها او تلقينها للمربين والمربيات. وذلك من خلال بناء ورشات عمل لهم لتدعيم قدراتهم على احتواء احتياجات الطلاب ولجسر الهوة الحاصلة بينهم
المربين والأهل: هناك حاجة لبناء لغة مشتركة بين الأهل والمربين والمربيات ليكونوا مرجعا آمنا للطلاب واحتياجاتهم دون اللجوء للوم الأهل تارة ولوم المربين تارة أخرى. فالمربين والمربيات هم أيضا بادوار الأهل.
المجتمع المحلي بمؤسساته المنهجية واللامنهجية : هناك حاجة لاحتواء طاقات الأطفال والنشء من خلال مسارات متنوعة تتيح لهم استغلال الثورة المعلوماتية بشكل ايجابي وبناء وتخلق فيهم جيلا مبدعا لا متلقيا.
المقترحات ليست صيغ علاجية تصرف في الصيدلية وإنما هي بمثابة عمل دءوب متواصل ومتابع لجميع التحديثات التكنولوجية وللثورة المعلوماتية تمكن النشء من السيطرة عليها وتسخيرها لتطوره العقلي والوجداني ولتجعله عضوا مساهما في تطوير مجتمعه.
بقلم:عربية منصور
مختصة ومستشارة بمواضيع التربية والتوعية الأسرية والمجتمعية.