الاديب فتحي فوراني يصدر كتابًا حول سيرتهِ الذاتية يحمل عنوان “بين مدينتين” يستعرض فيه مراحل من حياتهِ على مدار رحلة عمرية حافلة بالأمل وبالأحداث الشخصية المشوبة بكثيرٍ من المعاناة المقرونة بمتعة الكفاح الاجتماعي الإنساني .
أتحفنا الأديب الأصيل الأستاذ فتحي فوراني بإصدارهِ كتابًا جميلًا حول سيرتهِ الذاتية يحمل عنوان “بين مدينتين” يستعرض فيه مراحل من حياتهِ على مدار رحلة عمرية حافلة بالأمل وبالأحداث الشخصية المشوبة بكثيرٍ من المعاناة المقرونة بمتعة الكفاح الاجتماعي الإنساني والذي يتضمن وقفات ومواقف في ارتياد العمل الكريم والعلم والثقافة من خلال خوض الكاتب لمجال التربية والتعليم على امتداد ثلاثين عامًا، أجاد وأبدع في العطاء التربوي والأدبي، مستقطبًا حوله أجيالًا من طلبة وطالبات الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا حيث عمل طوال رحلته التربوية الأدبية مُدرّسًا للغة العربية، مُقدّمًا عصارة فكرهِ وحكمتهِ في إفادة طالبي العلم والأدب من كلّ حدبٍ وصوب ممن ارتادوا الكلية الأرثوذكسية، علاوة على طلبة اللغة العربية في كلية “أورانيم” التي أسهم فيها إسهامًا مفتخرًا محمودًا خلال فترة عمله هناك كمحاضر لفترة ناهزت العشرة أعوام.
إنّ كتاب الأستاذ فتحي فوراني يعكس ويصوّر حياته في طفولته وصباه وشبابه إلى أيّامنا هذه بعد تقاعده من العمل، وهو يقدّم سيرته الذّاتية منذ التهجير من مسقط رأسه صفد وانتقال عائلته إلى النّاصرة وبعدها إلى حيفا مكان سكنه الحالي. ومن اللافت أنّ الكاتب يدأب على تبيان تجربته بكلّ لباقة وشفافية مستخدمًا الأسلوب السّردي الشّائق المصحوب بالتعليق أو التعقيب الذّكي الذي لا يدخل الملل إلى نفوس القرّاء. فالأحداث المعروضة في الكتاب تلقي الضوء على أحداث تلك الأيّام من خلال إتيان الكاتب بلمسات إنسانية صافية الجوهر لتصوير شخصيات كان للكاتب علاقة وثيقة معها أدبيًا واجتماعيًا وثقافيًا حيث يسهب في ذكر أسماء العديد من الأدباء والشعراء المعروفين كمحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وإميل حبيبي وغيرهم، بالإضافة إلى ذكر مواقف إنسانية لبعض الأشخاص الذين كان الكاتب على اتّصالٍ معهم، فيشيد بهم انطلاقًا من وفائهِ لهم ولصداقتهم، فالأستاذ فتحي فوراني يستخدم في معظم سطور كتابه الأسلوب المكثّف الخالي من الإسهاب المُمل، فيغني بهذا القرّاء بمعلومات موجزة توحي بالمعاني التي يقصد أن يوصلها إلى القارئ دون أن يطيل الشرح ولينتقل بعد ذلك إلى موضوعٍ آخر، وكأنك تشاهد شريطا سينمائيًا متعدّد المشاهد المقتضبة الموحية ذات الطابع الأدبي الذي يصب في بحر التوصيف الشّفاف ذي الرّؤية الإنسانية الشّجيّة المتّسمة بالرّصانة والنابعة من ذاكرة حيّة تعود إلى سنوات الكاتب في الناصرة كصبي وتلميذ صغير وطالب في المدرسة الثانوية هناك، وكذلك ما مرّ به فيما بعد في حيفا التي يكنّ لها ولبحرها المتوسّط ولكرملها الأشم كل محبة وعشق يصفه بكلمات عاطفية فيها شفافية الأديب وشاعرية متذوّق الجمال والأدب الرّفيع.
لقد كانت وما زالت حياة أديبنا فتحي فوراني مرتبطة ارتباطًا متين الوشائج بوطنهِ مهما تنوّعت أماكن سكناه، فهو ابن هذه الأرض “التي تتكلّم عربي” على حدّ تعبير الموسيقار المصري الكبير سيّد مكاوي. ومن الملاحظ أنّ أديبنا الأستاذ فوراني يسعى دائمًا شفاهةً وكتابةً إلى توطيد أواصر التّفاهم والوئام بين أبناء الشعب الواحد، داعيًا إلى الوحدة ونبذ التّعصّب والعنصرية، رافعًا لواء الإنسانية بكل صورها وأشكالها، وخير ما يشهد على ذلك كتاباته ومواقفه الجماهيرية كبيرة المعاني، واضحة التداعيات، فهو إنسان عربي أصيل المنبت، طيّب المنشأ لا يفرّق بين إنسانٍ وآخر من حيث الانتماء، وإنّما يعطي كلّ فردٍ في هذا المجتمع الاحترام اللائق بهِ، وهذا لا يقتصر فقط على أبناء شعبه، وإنّما ينسحب على أخيه الإنسان مهما اختلفت قوميته أو دينه أو عرقه. فعلاوةً على معرفتي الشّخصية به وبخصالهِ النبيلة وهدوء طبعه المميّز، فإنّني أرى في أخلاقهِ الكريمة تطبيقًا وانعكاسًا لقول الشّاعر:
صافِ الكرامَ فخيرُ مَن صافيته —– مَن كان ذا أدبٍ وكان عفيفا
إنّ رحلة كفاح الأستاذ فوراني كما يصوّرها كتاب “بين مدينتين” هي قصة إنسان عصامي وصل إلى هذه المرتبة من الثقافة والأدب والعلم والمعرفة والاحترام والتقدير بفضل إرادتهِ الصلبة، وإيمانه بالإنسان الخيّر بجوهرهِ، وبقوة التّحدّي الكامنة في ذاتهِ الرّافضة والشاجبة لكل عنفٍ دون أن يفرّط بحقّهِ في حياة كريمة ترتكز على الاعتداد بنفسهِ كإنسانٍ أوّلًا وكأديب مرهف الحسّ ثانيًا لا يرضى باستلاب الكرامة، فهو في كل الأحداث والمواقف التي يتطرّق إليها في كتاب سيرته الذاتية هذا، نلمح هذه الرّوح الإنسانية الرّاقية الحضارية في نفس هذا الإنسان كمربٍّ فاضلٍ أوّلا وكمثقف وأديب مرموق ثانيًا. إنّه الأستاذ فتحي فوراني (أبو نزار) الذي اخترق حواجز الحياة بمنغصاتها وصعوباتها وبقي صامدًا ليعتز بالمدينتين المعشوقتين في قلبه ونفسه: النّاصرة وحيفا حيث إنهما تمثلان ساحة لمعركة حياته التي شاء القدر أن ينتصر فيها أبو نزار بعد أن حمل صليب آلامه ليصل أخيرًا إلى الخلاص المنشود في حياةٍ مفعمةٍ بالأدب والثقافة والاحترام والعيش الكريم في إطار أسرته وعائلته الغالية على قلبهِ، متمنين له الصّحة والعمر المديد ودوام العطاء والتوفيق في كافة الميادين وعلى مختلف الصُّعد، دون أن ننسى تهنئته بصدور هذا الكتاب الشّائق “بين مدينتين” الذي يمتاز أيضًا بحُسن الإخراج وأناقة الإصدار حيث أوّل ما يتبادر إلى ذهننا من عنوان الكتاب رواية “قصّة مدينتين” للكاتب الانجليزي الشّهير تشارلز ديكينز التي استقى عنوانها من الأحداث بين مدينتي لندن وباريس في ذلك الزمان، وبالتالي فإنّ الأستاذ فتحي فوراني أراد للناصرة وحيفا أن تكونا مدينتي سيرته الذاتية تيمّنًا بعنوان قصّة تشارلز ديكينز المُشار إليها.