في العقد الأخير من هذا القرن، على الأقل، كثر التنظير والتحليل حول السياسة اللغوية المتبعة في إسرائيل ومحاولاتها الجادة بالخفي والعلن في طمس هويتنا الفلسطينية والنيل منها بشتى الطرق، كالعمل على تشويه وتشويش الذاكرة الجماعية والرواية التاريخية عبر المشهد اللغوي على لافتات الشوارع في الطرق العامة والشوارع الرئيسة في البلاد.
ولا يخفى على أحد ما تضمره هذه السياسة من رغبة جامحة في تهويد البلاد وعبرنة الأسماء وأسرلة المكان، استمرارا لسياسة كانت قد بدأت في عهد بن غوريون منذ قيام الدولة. كل ذلك على حساب التواجد العربي والهوية العربية الفلسطينية، وواقع الحال يؤكد أنها نجحت في ذلك إلى حد كبير.
أما الوعي في الوسط العربي، إلى أهمية المشهد اللغوي ومدى علاقته في تأكيد الوجود الفلسطيني وتعزيز هويته فإنه جديد نسبيا ولم يفطن إليه العرب في إسرائيل في السابق لأنهم كانوا مشغولين بما هو أهم كالحفاظ على الأرض من الضياع أو العمل على إرجاع أراض مسلوبة وإعادة ملكيتها، وغيرها من القضايا التي أفرزتها النكبة. اليوم هناك أكثر من جهة ومؤسسة عربية، مثل منظمة عدالة ولجنة المتابعة العليا، تثير هذه القضية وتطالب بإعادة القيمة الرمزية والتاريخية للغة العربية، حتى لا يتم تفريغها من مخزونها الثقافي والتاريخي كما هو الحال اليوم.
اللغة ليست مجرد حروف وكلمات يقتصر أداؤها على الاتصال والتواصل، بل إن لها إلى جانب ذلك وظيفة أجلّ وأسمى كونها حاملة للهوية الجماعية للمجموعات المختلفة، ونحن الفلسطينيين نُحمّلها العبء الأكبر في تجديد عهدنا مع الأرض، وتعزيز انتمائنا التاريخي وواقعنا بما تفرضه من مضامين تصبّ جميعها في بوتقة هويتنا القومية وروايتنا التاريخية الفلسطينية نظيفة بلا تشويه أو تحريف. فإذا كانت اللغة أداة تختزل بين حروفها كل هذا المخزون الثقافي والتاريخي، فإن حضورها في المشهد اللغوي العام لا بد أن يكون ذا أبعاد ثقافية وتاريخية فيطال الأرض والزمان والمكان والإنسان، ليساهم بالتالي في بلورة هويتنا وتعزيز انتمائنا والحفاظ على إرثنا الثقافي وحضارتنا العريقة.
أما الأسماء فإن لها دورا هاما في حفظ الذاكرة التاريخية، فإذا ما واتتنا الفرصة لذلك ضيّعناها من بين أيدينا ولم نحسن اغتنامها. من جهة ثانية الاعتبارات الموجِّهة في تسمية الشوارع كان يجب أن تراعي جوانب ثلاثة: البعد الفلسطيني العام، والبعد المحلي، والبعد القومي. وللحق أقول أن اللجنة المسؤولة عن تنفيذ المشروع قد وُفّقت في تسمية عدد من الشوارع كتلك التي سُمّيت بأسماء المدارس والمساجد التي تمر بها، ذلك أنها تحمل في مضمونها بعدا ثقافيا وتاريخيا عاما. فاتَّسم الأمر بشيء من المنهجية والوضوح.
بالمقابل فإن اللجنة برأيي قد أخفقت في تسمية عدد من الشوارع مثل شارع البلدية، شارع البريد، شارع السمكة، شارع الشل، شارع مركز الطفل، شارع مخبز أبو صالح…وغيرها. يبدو واضحا أن بعضا من هذه الأسماء تم اختياره لكونه علامة فارقة في هذا الشارع وذاك…أقول علامة وليس مَعْلَما يحمل دلالات ثقافية أو تاريخية، ومتى كانت الشوارع تسمى باسم مبنى أو مؤسسة قائمة في هذا الشارع ليس لها أي فحوى ولا مضمون من أي نوع حتى بدت جميعها خاوية تماما لا تؤدي أكثر من وظيفة الاتصال. أما شارع مركز الطفل فكان من الممكن أن يستبدل باسم أكثر عمقا ونجاعة مثل “جسر السلام” فما ضر اللجنة لو فعلت ذلك! وأتساءل ما إذا كان اختيار علامة فارقة إجمالا نهجا يحتذى في تسمية الشوارع وهل سبق استعماله من قبل سلطات محلية أخرى في البلاد؟ وعلى فرض أن الأمر جائز ، ماذا لو زالت هذه العلامة؟ ماذا لو انتقل مخبز أبو صالح إلى مكان آخر؟ وماذا لو تغير مكان البلدية واستخدم المبنى لهدف آخر!؟ وهل خلت جعبتنا من الأسماء ونفد مخزوننا الثقافي حتى نسمي الشوارع كيفما اتفق!! وما هي الصورة التي ننقلها للغريب والزائر الذي قد يأتينا ويرى هذا المشهد اللغوي الضحل، أهذه هي آثارنا التي ستدُلّ علينا، وما نضح به إناؤنا! وأخيرا ماذا عسانا نقول للمؤسسة الإسرائيلية عن هذه الاختيارات التي تمخض عنها جهد سنين، لتساهم هي أيضا في تعزيز السياسة العليا وتفرغ اللغة العربية من مضامينها، أهو خوفنا أم خواؤنا أم خواء تاريخنا وحضارتنا!
أما شارع السمكة الذي ابتدعه أهل الطيبة قديما لأنهم رأوا فيه شكل السمكة حينذاك فأين هو اليوم من هذا الشكل؟ وهل كان لا بد من الاحتفاظ بالاسم على حساب أسماء أجدى وأهم. وإذا كان الأمر كذلك، مع أن المنطق في غيره، فلنُبقِ إذا تلك الأسماء البدائية التي عرفها الناس قديما مثل: خربة جبارة، حوش السرب، المكاسر، واد حمدان، الشل… وغيرها من الأسماء التي اعتاد الناس عليها، فهل هذه خير بضاعتنا لنضعها في الواجهة وليس لنا غنى عنها حتى نضعها في الميزان مع رموز تاريخنا وثقافتنا فترجح كفتها!؟ أم كان من الأفضل إعادة النظر واستبدالها بما يشَرّفنا ويرد إلينا تراثنا وتراث آبائنا ويحفظ لنا هويتنا الثقافية والقومية!
بالمقابل لاحظنا غياب أسماء أعلام محلية من تاريخ الطيبة، لشخصيات كان لهم دورهم البارز في صنع ثقافتنا وتاريخنا، فلماذا لم تعمل اللجنة المذكورة على تخصيص مكان لهذه الأسماء في بلدهم ومسقط رأسهم أليسوا جديرين بالذكر والتكريم! من هؤلاء أذكر على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ حسين، يوسف الحافظ، سعيد ناشف، أحمد عبدالعزيز ادريس…وغيرهم من المربين الأوائل. هناك أيضا أحمد نجم الدين الناشف من شعراء الطيبة الأوائل أفلا نكرمه! كذلك عارف عبدالرازق الذي يعد من قادة ثورة 1936 ألا يستحق مثله أن يكرم في بلده فيطلق اسمه على شارع رئيس في الطيبة مثل شارع البلدية المفترض، أو شارع مخبز أبو صالح المفترض أيضا بصفته أول وأقدم شارع في الطيبة أم أن الأسماء التي اتخذتموها أفضل وأسلم! وماذا عن ابن الطيبة العلاّمة عبد اللطيف طيباوي الذي خرج إلى العالمية واقترن اسمه باسم الطيبة أينما حلّ وذُكر ، فكيف لا نرُدّ له ولكل هؤلاء بعضا من الدّين! والقائمة طويلة طويلة…والأسماء كثيرة لمن يريد للطيبة عملا مُشّرفا ووجها مشرقا، وغياب مثل هذه الأسماء عن لافتات الشوارع في الطيبة ،التي كانت يوما ما معقل العلم والثقافة والمقاومة، فيه تقزيم لحضارتنا كما أن فيه إجحاف واستهتار بالطيبة وأهلها وتاريخها العريق!