من يظن ان مزيدا من القوة قد يقضي على “داعش” او على “جبهة النصرة”، فهو واهم. أكثر ما قد يحققه استخدام القوة المفرطة في هذه الحرب هو دحر عناصر “داعش” عن موقع ليجتمعوا في موقع آخر، ولكن بين دحرهم والقضاء عليهم فرق شاسع، لأنه لا يمكن هزم الفكرة بقصف جوي.
“داعش” ليس مجرد تنظيم متطرف، ولا هبط علينا بمظلة من السماء. انه نتاج تاريخ طويل لحروب ونزاعات دامية منذ الفتوحات الاسلامية وحتى سقوط الدولة العثمانية. علاوة على الاستغلال المتواصل للدين سعيا الى السلطة منذ عهد الخلفاء الراشدين، وإلا كيف لنا ان نفسر لماذا قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين؟ حتى ان هناك من يقول ان ابا بكر الصديق مات مسموما على يد طبيبه الخاص. ألا يدفعنا هذا الى طرح الاسئلة والى قراءة جديدة معمقة لموروثنا الديني.
لقد درسنا جميعا تاريخ السلطة السياسية في الاسلام واسميناه خطأ بـ “تاريخ الاسلام”، ورحنا نقتبس ونوظف ما راق لنا من ممارسات هذا القائد العسكري او ذاك دون الاخذ بها من منظور روحاني خالص والتحقق من مشروعيتها الدينية، لا السلطوية.
ولهذا ما من مفاجأة في ظهور “داعش” كمحصلة لفكر وتأويل مصحوب بإيمان عميق وبشراسة فظة لحماية هذا الفكر ونشره في الارض وفرضه على من عليها. من هنا فإن محاربة “داعش” لا يجب ان تقتصر على نيران الاسلحة ولا على الذم والشتم ليل نهار عبر وسائل الاعلام، لأن هذا لن يجدي نفعا حقيقيا حتى ولو بدا نصرا عسكريا، فهو يبقي انطباعا مخادعا.
إن “داعش” وغيره من التنظيمات الدينية المماثلة، جاء يحمل مشروعا ثقافيا وفكريا وتنظيميا وبالتالي سلطويا، يأخذ من الاسلام وتاريخه كل ما يخدمه كمشروع. في المقابل نلاحظ ان دولا مثل السعودية والعراق وسوريا والاردن وغيرها، ممن هبت لمحاربة داعش، راحت تقاتل التنظيم بوصفه قوة عسكرية يجب القضاء عليها خشية على السلطة في هذه الدول. هذه الدول لا تحارب الفكرة ولا الثقافة ولا البيئة الحاضنة لداعش وامثاله من الحركات والتنظيمات الدينية المتطرفة، علما بأن المعركة مع هذه التنظيمات اوسع واشمل بكثير من مجرد تبادل لإطلاق النار، فهي معركة حضارية ثقافية وتراثية ان شئتم، وإن احراز أي تقدم في ميدان القتال الآن ليس سوى سراب نصر مؤقت. وامثلة كالصومال وافغانستان وغيرهما لا تزال ماثلة امامنا.
لو نظرنا الى ماضينا، نحن المسلمون، منذ ظهور الرسول الكريم الى الآن لوجدنا ان تسلسل تاريخنا كان ولا يزال على مسارين متوازيين على مر القرون التي خلت. احدهما المسار الديني الثابت والقائم على النص القرآني، وثانيهما هو المسار التراثي التراكمي الذي يقوم على تأسيس السلطة منذ “غزوة الأبواء” اولى غزوات المسلمين وحتى سقوط عبد المجيد الثاني آخر السلاطين العثمانيين.
إذن أين المفاجأة في ظهور “داعش” و”جبهة النصرة” و”انصار بيت المقدس” و”الشباب المجاهد” و”بوكو حرام” و”القاعدة” وغيرها الكثير من التشكيلات المتطرفة للجهاد السلفي التي تعتمد الاسلام شعارا لها؟
لا يدور الحديث هنا عن الاسلام السياسي مثل “الاخوان المسلمين” في مصر او “حزب النهضة” في تونس او “حماس” و”الجهاد الاسلامي” في فلسطين او “حزب الاستقلال” المغربي او “حزب الامة” السوداني او “الرابطة الاسلامية” في الباكستان ولا حتى “جمعية العلماء المسلمين” في الجزائر. كما لا اتحدث عن دول مثل السودان او العربية السعودية التي تطبق الشريعة الاسلامية.
خلاصة القول ان ليس هناك اسلاما متطرفا او اسلاما معتدلا، إذ هناك اسلام واحد فقط، ولكن هنالك مسلمون متطرفون ومسلمون معتدلون، وهذا يعود الى الخلفية الثقافية والرؤيا التربوية لكل منا. إذن لدينا اسلام واحد لا يتجزأ. كما ليس هناك اسلام حقيقي واسلام باطل، اسلام صحيح واسلام غير صحيح، بل هناك مسلمون يفهون الاسلام بطرق مختلفة، البعض يتناوله بصورة غير صحيحة فيقدمه على انه غير صحيح وآخر يتناوله بطريقة باطله فيقدمه على انه باطل.
ما لم يكن لدينا مشروع حضاري انساني ثقافي عميق واساسي جديد يرتكز على قراءة جديدة عصرية لكل موروثنا الديني وتاريخنا الاسلامي، تتلاءم مع يومنا الحاضر، فإننا سنبقى نعاني من نتوءات فكرية دينية تسيء لديننا اكثر من أي تطاول خارجي عليه، لأنها تنخر في احشائه.