إن جلست اليوم بجوار شخص بهذه القيمة وبهذه القامة، فلا بد ان يأخذك شيءٌ من الاعتزاز بدون ان تدري، فتنتفخ رئتاك ويندفع صدرُك وينتصب جيدُك ويحتد نظرُك لأنك تتحسس الارتباط به ولأنك تبحث عن تقارب معه ولأنك تسعى لتجمع نفسك به ولو من حيث الانتماء الى البلد الواحد.
رغم انه يكبر الدولة بتاريخ كامل، إلا انها لم تعترف بعمق جذوره في فرديسيا فشرّدته وبقية اهالي قريته، وإذا به يصل الطيبة هِبةً وُلدت من قلب المأساة. في تلك الايام لم يكن احد يتصور أن للطيبة اصبح شاعرها.
انه الشاعر محمود دسوقي، جاءت به الاقدار نعمة لهذا البلد في وقت عزّت فيه كسرةُ الخبز، وغاب عنه الأمان. حط رحاله بيننا وبعد ان كان منا صار لنا، نباهي به القرى والمدن حتى بات بلدنا يعرّف احيانا باسمه.
الطيبة مدينة لا احد فيها يعرف اسماء شوارعها، ولا احد من اهلها يعرف اسماء تلالها. مدينة تخلت منذ زمن عن حقولها وبساتينها ، ومات فيها كثير من المفردات. مدينة عجزت احيانا عن حماية شبابها واخفقت في صون اسمها وهيبتها. هذه المدينة بقيت وفيةً لقليل من الماضي ولكثير من الكبرياء. فما ان يصل غريبٌ مشارفها سائلا عن الدسوقي حتى ندرك ان المقصود هو شاعرنا، ولا يهمنا اسمه الثلاثي.
الآن إذا ما نظرت في وجهه فإنك تتبين تفاصيل مخطوطة رسمتها السنين مزدحمة بأخاديد التشرد والكفاح، وإذا ما دنوت منه أكثر وحاولت قراءة ثنايا جبينه فإنك تتبين زنزانة وسجانا وتعذيبا. حين تتأمل الدسوقي تجده نحيفا وليس هزيلا رغم ما فعلت به السنين والسجون. تهم لمعانقته فتكتشف قصر ذراعيك لاحتضان سنديانة بهذه الضخامة. تكتفي بمصافحته فيتسرب عبر كفه إصراره اليك. تحاول ان تراوده عن نصف ابتسامة فيرميك بقصيدة استوت لتوها في فرن افكاره.
انه الشاعر محمود دسوقي الذي يطوي آخر سنوات عقده الثامن، انه المتمرد الابدي الذي لم يتقن “فنون” الانحناء. وقد حاول اقوياء الساعة مرارا وتكرارا الزج به في مربعاتهم السياسية ولم يكن لديهم مربع بمقاسه، فبقي حرا طليقا بلا إطار يقيده، عروبيا يتراوح بين القومي والوطني برذاذ ناصري.
بينما كان البعض هنا يمارس اقناع الذات بمقولة “لا نبي في قومه”، جاء الرد في عام 1994 من “الباب العالي” الفلسطيني، من عرفات نفسه، الذي ما ان عاد الى غزة بعد ان تشرد لعقود، حتى كرم سنديانة فلسطين، الشاعر محمود الدسوقي، وكأنه كان يستعد لملاقاته منذ سنين ليتوّجه بإكليل قديس.
تجول الشاعر بقصائده في كثير من دول العالم يحمل في صدره طيبته وهموم شعبه، فغرس هنا كلمة وبذر هناك عبارة نمت وترعرعت واستقطبت انصارا وأنارت دروبهم، وما لبث ان جاء الاعتراف يتلو الاعتراف والتكريم يتلو التكريم من شعوب لا تفقه العربية، ولكنها معجونة بتقدير الآخر فما بالك حين يكون هذا الآخر مبدعا كشاعرنا.
اليوم ونحن نتصفح مفكرة الشاعر من سنين خلت، نجدها مكتظة بتواقيع العرب والأجانب، بشهادات تقدير وتكريم ، بصور تذكارية مع شخصيات هاماتها شاهقة. والطيبة ، اين الطيبة لتكمل ثالوث التكريم ? فمحمود ابنها وشاعرها وله عليها ما ليس لأحد سواه . أبعد العربي والأجنبي تختفي ثالثة الاثافي ؟ الطيبة !
ترى هل بقي فينا، نحن ابناء بلده، من الشجاعة ما يكفي لنرفع قبعاتنا اكراما لهذا المبدع الذي انجب الطيبة من قصائده بعدما انجبته هي من رحمها ؟ لعل الشاعر الدسوقي ككل العظماء الاشقياء الذين سبقوه على هذه الارض، يقضون سني حياتهم يشيّدون صرح احلامهم ، فلا احلامهم تتوقف ولا صرحهم يكتمل ما عاشوا.
ملاحظة
“نشرت مقالي هذا في موقع “الطيبة نت” بتاريخ 09.10.2012 للمطالبة بتكريم الشاعر وها انشره اليوم بمناسبة تكريم الشاعر بعد ثلاثة اعوام على مطالبتي”