هديل ناشف ابنة مدينة الطيبة، اديبة اطفال اختارت ان تخدم بلدها من زاوية مختلفة، قلما يلتفت اليها الذين يسعون الى بناء مجتمع يرقى بالانسانية، وتلعو افقه الثقافة، اختارت الطفولة لتزرع بذرة في نفوس لازالت ورقة بيضاء، تنقش عليها قيم انسانية بحتة، وتخط مبادئ تنمي انتماءهم الى بلدهم، وتفتح امامهم مجال التحليل والقبول او الرفض، والتعبير عن ما يجول في اذهانهم.
اجرى مراسل موقع “الطيبة نت” لقاء مع الكاتبة واديبة الاطفال، هديل ناشف ابنة مدينة الطيبة، خريجة جامعة القدس موضوع علم الأحياء، تدرس حاليا موضع العلاج بالدراما، عملت لسنوات طويلة في الصحافة الثقافية والتحرير.
لنبدأ اولًا من الذاكرة. أي ذاكرة تحمل الكاتبة الطيباويّة هديل ناشف؟
انّها ذاكرة بصريّة غنيّة بأحواض النعنع والعُطرة وشجرة تمر الحناء في ساحة البيت، تفوح منها رائحة طين “العَمري”. وذاكرة انسانية ممزوجة بدفء عائلي هائل لأب ديمقراطي حُر معتز بعروبته يشدو لها ليل نهار، وعائلة مُحبة حانية قارئة. هذا المزيج البيئي هو من كتبني وكتب نصوصي. الكاتب لا يكون بمعزل عن ذاكرته واسقاطات الذاكرة.
كيف اخترت الكتابة؟
الكتابة هي وجه ثقافي. وانا أؤمن انّ الثقافة هي آلية مقاومة وبقاء، وأرى بها انتصارًا في وجه استفحال الجهل.
لا ادري ان كنت اخترت الكتابة ام انّها هي التي اختارتني، لكنني أديبة أطفال. والكتابة هنا في بلادي، ضرب من الجنون ومن النضال. مسكونة انا بهاجس تطوير أدب الطفل العربي ورفع سقف التوقعات من كل مادة ثقافية ابداعيّة تُقدم للطفل، حرصًا على صقل ذائقته الجماليّة منذ الصغر.
عرفينا عليك!
سؤال التعريف دائمًا صعبٌ. أنا خريجة جامعة القدس في موضوع علم الأحياء. وأدرس حاليا موضوع العلاج بالدراما. عملت لسنوات طويلة في الصحافة الثقافية والتحرير. أدير مركزًا ثقافيًا مستقلا يقدم ورشات تنمية وتطوير وتمكين للأطفال بواسطة القصّة والدراما. وأعمل بالتعاون مع عدة مؤسسات تربوية في التوجيه والارشاد التنموي لجيل الطفولة.
لدي أسرة جميلة زوجي ابراهيم وأم لولدين هما عبدالرحيم وجهاد ناشف، صبيّان ذكيّان مبدعان وقد سبق وقدما مجموعة من الأغنيات الملتزمة من تأليفهما وألحانهما. وأعتز انهما الناقد الأول لأي نص أكتبه.
من هو القارئ الذي تضعينه في ذهنك أثناء الكتابة! لمن تكتبين؟
أكتب للطفل الذي مزّق لوحته وألقاها في سلة المهملات، لأنهم سخروا من رسومه ونعتوها بالخرابيش. أكتب للطفلة التي انزوت، لأن شعرها لا يشبه شعر الأميرات. أكتب للطفل الذي لا يملك جهازًا رقميًا عصريًا ويخجل أمام أصدقائه بحذائه المنسي. أكتب منحازة اولًا لهؤلاء حتى يستعيدوا ثقتهم بالحب والشمس وشجرة الزيتون وسنابل القمح والبحر والغيمة وشدو الدوري والمطر.
ما هي اصداراتك؟
كتبتُ حتى الآن 17 كتاب أطفال. صدر منها 13 كتابًا هي: ” الحلزون الذي أضاع حلمه” ( اصدار كلية القاسمي)– “أنا ايضًا أستطيع” – ” حروف تبكي على الرفوف” – ” جديلة حنّاء” – ” النملة عبلة والوحش العجيب ” – “عصفور الشمس يغني” – ” أنا لستُ فراشة ” – ” خارج الصندوق” – ” وفاءٌ للبالون الأحمر” – ” أبي صاروخ وجدّي قمر صناعي” ( اصدار دار الهدى كريم)– ” لوز تنقذ العالم” – ” كلام من صخر” ( اصدار دار أصالة بيروت) – ” رغيف خبز على الطريق” ( اصدار دار العالم العربي دبي) واربعة منها غير منشورة وتحت الطبع هي: “قمرٌ يحرسُ بيت كرمل” – ” جاموسة عروسة تأكل فقوسة” – ” كلمة بابا السحرية” – و” ديناصور في الخزانة”.
فازت قصّتك” رغيف خبز على الطريق ” مؤخرًا بالمركز الأول بجائزة مؤسسة الفكر العربي. هلا حدثتنا عن هذا الفوز الجميل؟
انّه نجاح فرحتُ به، كان يحمل اليّ انتصارًا على حدود المكان. لقد وصل الكتاب اولا الى القائمة القصيرة بعد ان اختارته لجنة التحكيم. ثم شارك في المنافسة على قلوب المئات من الأطفال والطفلات العرب حول الوطن العربي. وهم الذين قرروا اي كتاب يتوّجون. وهذه هي ميزة هذه الجائزة، ان للأطفال دورًا في الاختيار.
سعدت لأنّ هناك طفلًا عُمانيًا او قطريًا او لبنانيًا او بحرينيًا في مكان ما، قرأ كتابي وأحبّه.
على الصعيد المهني، هذا النجاح يعني تأكيد وجودي ككاتبة حاضرة في المشهد الأدبي العربي العام. وهذا يعني ان تكون كاتبًا قادرًا على التأثير فكريًا.
من جهة أخرى أرى بهذا الفوز، تأكيدًا انّ العربي في الداخل الفلسطيني قادر على الابداع وبوسعه ان يزهو بإبداعه ويضاهي به أفضل المستويات مذللا اي عقبة تعترض طريقه والعقبات كثيرة. نحن ايضًا بوسعنا ان نكون صُناعًا للقصة واللوحة واللحن والموسيقى والطب والابداع بكافة اشكاله، بل أيضا نحن قادرين على تصدير ابداعنا. واننا امتداد لهذا العالم المترامي حولنا ولسنا متقوقعين ومنغلقين على ذواتنا، نلهث خلف خبزنا وسياراتنا الفارهة وأشهر الماركات. لا، نحن لسنا متلقين فقط، بل أيضا صناع فكر مستنير.
وقد أهديت هذا النجاح لأبناء وبنات بلدي الطيبة فردًا فردًا، وليس من باب التعصب، فالطيرة ويافا وحيفا والقدس ومجد الكروم ودير الأسد وكفر برا وجلجولية وقلنسوة وباقة الغربية… كلها بلدي، لكن يحق للطيبة ان تفرح بانجازات ابنائها. الطيبة تستحق شيئًا من الفرح.
تتمتع الكتابة للأطفال بخصوصية مغايرة لما يُكتب للكبار. كيف تقيّمين وضع كتاب الطفل المحلي؟
الكتابة للأطفال هي من أصعب أنواع الكتابة. تحتاجُ لأن ترتقي الى مرتبة القدسية حتى تكتب لطفل.
وضع أدب الأطفال في البلاد، وان كان يشهد انتعاشًا ما في السنوات الاخيرة، الا أنه موجود في أزمة. هناك دول في العالم تولي حكوماتها ومؤسساتها الرسمية اهتمامًا بالغًا بثقافة الطفل وبنموّه الثقافي السوي. الأمر الذي لا ينطبق على طفلنا العربي في البلاد.
من جهة انتاج كتاب أطفال نوعي يتطلب تكلفة عالية. من كلفة الرسوم والتصميم الفني والاخراج والطباعة، من جهة أخرى هناك أزمة قراءة حقيقية في المجتمع الفلسطيني في الداخل، على مستوى البالغين وعلى مستوى الأطفال.
الكاتب في أزمة، لأنه بالكاد يتلقى مقابلا ماديًا لقاء نصّه والرسام في أزمة لأن ما يتقاضاه بالكاد يكفي لثمن الألوان والأوراق. والناشر الذي عادة ما يتلقى وابل النقد والاتهام، رغم انه ليس المتهم الوحيد، فهو أيضًا في أزمة. وللخروج من هذه الأزمة والنهوض بأدب الأطفال الى مرحلة الابداع والدهشة والسحر والمتعة، على كافة الجهات والمؤسسات الثقافية بما في ذلك المجتمع المدني، عليها ان تتكاتف وتضع خطة عمل مدروسة والشروع بتنفيذها فورًا.
ما هو المنشود اذن؟
كِتاب ادب الأطفال يجب ان يَخرج من القوالب النمطيّة في الشكل والمضمون. ويتخذ ايقاعًا تستجيب له روح القارئ الصغير.
وفيما يتعلق بالمضامين، على أدب الأطفال ان يتجاوز دور الواعظ الفوقي. وأن لا يفتح فم الطفل ويطعمه بالملعقة الفضية جرعات حكم ومعاني وقيم.
حتى يشمّ الطفل عبق زهرة شقائق النعمان النابتة على كتف التلّة، ندعه اولا يَفتتن بلونها وسحرها وعذوبتها ويختار ان يقترب منها بحب ورغبة وقناعة ليستمتع بشذاها، لا ان نُطبق على رأسه بقبضة حديدية ونجره الى شم الزهرة جرًا.
لقد شبع الطفل العربي أدبًا شعاراتيًا حتى التخمة.
شبع عطاء وتقبل الآخر المختلف دون تذويتها. والحيز العام يشهد بذلك.
هل نُعلّم زهرة عباد الشمس الكبرياء وعزة النفس؟ انّها بذاتها تختار ان تتجه نحو الشمس كنهج حياة. علينا فقط ان نُقنع الشمس بأن تشرق فوقها.
المطلوب لتطوير أدب الطفل، هو ان نقترب من عالم الطفل وان نُصغي الى احتياجاته هو وان نقدم له ما يحتاج اليه، وليس ما نحتاج نحن الكبار ان نكتبه. وهذا بالطبع لا يتناقض مع ان القصّة هي أداة سحريّة ومناسبة لتقديم القيم، لكن على المتلقي الصغير ان يستمتع باكتشافها واستخلاصها بنفسه. وهنا تكمُن مهارة الكاتب.
حدثينا عن ورشات التنمية التي تقومين بها مع الأطفال؟
أقوم بورشات كثيرة ومتنوّعة مع الأطفال في أماكن عديدة من البلاد. أحب الأطفال. انّهم ببساطة يُذهلونني بصدقهم وعفويتهم وقدرتهم العجيبة على الفرح. أدعوهم في ورشاتي ليقبلوا بي كشريكة في التجوّل بين الحكايات والاصغاء لأبطالها يفرحون تارة وتارة يحزنون. ينجحون تارة وتارة يفشلون. نتجول بين الأزقة، نشم رائحة الأزهار، نتأمل وجوه الجدات وأثوابهن المطرزة ونشارك الاجداد في حلقات الدبكة، نتعربش شجر الزيتون ونرقص مع عصافير الشمس. ورشاتي هي عبارة عن ابحار وسفر لاكتشاف الذات في محاولة لسبر كنهها وصقلها وتطوير مواطن القوة والقدرات فيها.
ما هي الرؤيا التي تحملها ورشاتك؟
على ملامح وجوه الأطفال والطفلات نرسم الغد والمستقبل. وبما اننا مجتمع يسعى الى التغيير للأفضل، علينا ان نتخذ من أطفالنا شركاء حقيقيين وأن نُزوّدهم بآليات صالحة لكيفية اتخاذ القرارات الصعبة وشق الطريق في الصخر.
ان نكم أفواه أطفال اليوم ونكتم حضورهم في الحيّز العام، يعني ان نصادر صوت المجتمع الحر المُعافى غدًا.
احدى صديقاتي الصغيرات، وصلت إلى ورشتي صامتة لا تتكلم. وأمها بحالة قلق ان كل ” العلاجات” التي قُدمت لابنتها لم تسعفها. كانت الطفلة بعمر عشر سنوات تأبى ان تنطق بحرف، رغم انّها لا تشكو من أي مانع صحي. بعد فترة من اللقاءات في الورشة، أخذت الطفلة تتكلم ثم أخذت لا تتوقف عن الكلام. يومها تأكدت انّ مساحة الثقة والحب التي نمنحها للطفل واي انسان آخر، كفيلة بأن تصنع المعجزات. المحبّة هي الحل.
متى تصلين الى حالة اكتفاء في ورشاتك مع الاطفال؟
كثيرًا ما اكون راضية. فأجمل ما في الطفل انه يكافئك فورًا حين يفرح. الطفل يتقن منح الحب. يبتسم ويضحك وينهض من مكانه بلا مقدمات ليعانقك ويقبلك.
قبل أكثر من أسبوعين، وبعد ورشة قرأت فيها قصتي ” لوز تنقذ العالم بالحب”، بعثت لي والدة الطفلة ميان ابنة الخامسة من العمر، احدى طفلات الورشة الجميلات، مقطع فيديو تظهر فيه ميان وقد جمعت كل أطفال الحارة وأجلستهم حولها وكان أكبرهم لا يتجاوز الثلاث سنوات، وانهمكت تشرح لهم أهمية دور الحب في حل النزاعات البشرية وانهاء الحروب في العالم، مُقلدة ما قمت به في الورشة. هذا هو التذويت الذي أقصده. وهذا التكريم الذي منحتني ميان ووالدتها هو جُل ما أصبو اليه.
بين ألم وأمل…
قبل فترة قمت باجراء بحث يتعلق بثقافة الطفل العربي في الطيبة. وقد شمل البحث العشرات من الأطفال والطفلات من المرحلة الابتدائية والمرحلة الاعدادية والأمهات ممن شاركوا في البحث. ومن بين نتائج البحث المؤلمة، ان الأطفال المشاركين بملء استمارة البحث او ضمن حلقات النقاش المصغّرة، أعربوا عن ألمهم واحتجاجهم ازاء نقص جدي وحاد فيما يتعلق بالأطر الثقافية والترفيهية التي تحتويهم بعد العودة من المدارس. ولسان حالهم يقول: لا مسرح ولا سينما ولا حديقة عامة ولا مسار للدراجات ولا ملاعب كرة قدم، ثم يلومنا الكبار إن لعبنا في الشارع؟ ويتساءلون من اين يولد كل هذا العنف؟
المجتمع السوي عليه ان يَمنح اطفاله مساحات حريّة ومساحة ثقة بالقدرات. لا ان يُعلب فكرهم ويقصقص أجنحتهم، ثم يطالبهم ان بَلغوا بالتحليق والطيران. فمن لا يملك جناحًا يبقى ملتصقًا بالقاع.
الطيبة مدينة طيّبة حانية، تحتَمِل أخطاءنا منذ سنوات بصمت وصبر جميل وقدرة غير عادية على التضحية والاحتمال. علينا ان نتكاتف جميعًا ونخفف من أحمالها وندعها ترتاح قليلا.
في الطيبة، أمهات مذهلات عظيمات.
في الطيبة أطفال وطفلات موهوبون حتى الدهشة.
في الطيبة أناس كثيرون طيبون. مثقفون يحبون بلدهم بصدق. وكثير من النوايا الحسنة. لكن هل رأيتم مرة جبلا من النوايا الحسنة، يسير خطوة واحدة الى الامام؟
ماذا تطلب الطيبة من أهلها برأيك؟
الطيبة تطلب الا نخذلها.
نحن بحاجة لخوض نضال مجتمعي ضد الجهل والعصبية والعائلية.
علينا ان ننحاز لصالح الشراكة والاخاء الطيباوي والصوت العاقل والعلم والمعرفة.
أي حلم تحملين؟
ان أرى اللغة العربية تستعيد عافيتها واشراقتها. وان يُقبل عليها الصغير والكبير بحب واعتزاز. اللغة العربية وطن.
أن أكتب نصوصَا قادرة على خلق حالة من التفكير والحوار الصحّي. نصوص قادرة على التغيير وتحطيم الأسوار حتى تشرق الشمس في القلوب كما ورد في رائعة غسان كنفاني “القنديل الصغير”.
وان أشهد عصرًا تكون فيه بلدي الطيبة قبلة ثقافية، كما يليق بأبنائها وبناتها أن تكون.
أحلم بأن نظلّ قادرين على الحلم.