والد الشهيد ابو خضير: اتخيله جالسا بيننا على مائدة الافطار!
لا يندلع حريق إلا وأضاء ما حوله؛ صفتان اجتمعتا في طفل مقدسي احترق حتى استشهاده، وبجسده أشعل الحريق الذي لم ينطفئ بعد، بل امتد من القدس إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني، حتى شكّل مفترقا هاما ليس لذويه فقط؛ وإنما لكافة الفلسطينيين.
إنه الحريق الذي ما زال مشتعلا رغم مرور عام على اندلاعه، والنور الذي لم ينطفئ وزهرة النار التي نمت بين الهشيم؛ إنه الشهيد المقدسي محمد حسين أبو خضير الذي تعددت مسميات استشهاده، فقيل عنه؛ “شهيد الفجر” و “الشهيد البطل” و “شهيد القدس” أو “شهيد الطفولة والعلم”.
ورغم مرور عام على استشهاده، إلا أن جراح والدته المكلومة لم تلتئم بعد؛ فقد فقدت الأم طفلها المدلل والمحبب الذي اعتادت على احتضانه، وما زال جرحها ينزف وقلبها يعتصر، ولم تفارق الدمعة مقلتيها.
الشهيد محمد أبو خضير الذي فارق والديه بجسده، ما زال حيا بينهما ولم تمت ذكراه قط، عدا عن بصماته التي لا تنمحي من أي مكان في حياتهم؛ في بيتهم ومدرسته وأحلامه وطموحاته ومزاحه وضحكاته، حتى على مائدة الافطار في شهر رمضان.
ورغم وجوده الدائم في حياة والديه إلا أنهما يصطدما بعدم جلوسه على مائدة الإفطار في شهر رمضان، أو على مقعد السيارة الخالي، وكرسي التخرج الذي كان يحلم به.
” ما زلت احتفظ بملابسه وبمقتنياته وكتبه المدرسية..”
“لا أنسى محمد ولا لحظة خاصة في أول يوم من شهر رمضان، فعندما لم أره جالسا بيننا على مائدة الافطار بكيت بشدة ولم أستطع تناول الطعام” تقول والدة الشهيد محمد، وتضيف: “لقد كان يساعدني في تحضير مائدة الإفطار في شهر رمضان، ويذهب لشراء الحمص والخبز يوميا، وقبل استشهاده بثلاثة أيام لم يشاركنا الإفطار في شهر رمضان، وكان استشهاده في اليوم الرابع”.
وتابعت بحرقة وألم وهي تبكي: “محمد كل شيء في حياتنا، كان يضفي الضحكة والبسمة والمزاح في المنزل، لقد كان الوحيد من بين أبنائي الذي يناديني “يا يما”، ودائما يقعد في حضني حتى يوم استشهاده، كما كان يواسيني عندما يراني حزينة ويبقى يمازحني ويخفف عني حتى يرى الابتسامة على وجهي”.
ولم تعد والدة محمد تحتمل بقاءها في المنزل من شدة التفكير في ولدها محمد، وتقول: “عندما أذكره ولا أراه حولي أشعر بالنار تحرق جسدي فأخرج من المنزل، فبصماته موجودة في كل مكان، وما زلت أحتفظ بملابسه ومقتنياته، وحقيبته المدرسية وكتبه ما زالت كما هي، حتى زجاجات العطر الخاصة التي كان يستخدمها”.
وبين الدروع التي أهديت لهم عقب استشهاد محمد، جلست والدته تقلب صفحات ألبوم الصور الخاص بولدها الشهيد، وأخرجت صورا التقطت له منذ نعومة أظافره، مرورا بأيامه المدرسية وحياته العائلية ومع رفاقه؛ ووصولا الى صور جنازته. “ليت شيئا من هذا يعيد لي ولدي محمد” قالت بحسرة.
” لو كنت معه يوم استشهاد لأنقذنته..”
وتحدثت والدة الشهيد عن حب ابنها محمد للدراسة حيث تفوّق في تخصص الكهرباء في المدرسة كما حظي بحب أساتذته وزملائه. “تمت دعوتي مستهل حزيران الأخير للمشاركة في حفل تخريج أصدقائه الذين كانوا معه في نفس الصف، وكم تمنيت حينها لو أنني لم أحضر الحفل؛ فقد شعرت بغصة كبيرة وألم عندما رأيت صورة إبني محمد على كرسي فارغ، وهو الذي أحب التعلم وإكمال دراسته، إلا أنه استشهد قبل ذلك؛ حينها قضيت الحفل باكية وأهدوني صورته على لوحة تذكارية مرفقة بتواقيعهم، وبعدها مرضت أنا ووالده لعدة أيام”.
ويتوقف حديث الأم حين تُسأل عن لحظة استشهاده، الا أنها تستدرك وتقول: “يا ليتني كنت مع محمد لحظة استشهاده، لكنت أنقذته من أيدي المستوطنين، من المؤكد أن آخر كلمة رددها عند استغاثته هي “يا يما”. لم تفصلني عنه سوى دقائق ولكن قضاء الله وقدره سبقني إليه، فوالدة الطفل زلوم تمكنت من إنقاذ طفلها قبل يوم من استشهاد محمد، ولكني لم أتمكن من ذلك”.
وختمت حديثها بحرقة: “لم يمت ابني نتيجة مرض، بل حرق وهو على قيد الحياة؛ ما أبشع هذه الجريمة وأمرّها، لقد حرموه من الحياة وطفولته ودراسته وتحقيق طموحاته، ويعتقدون أنهم قاموا بعمل بطولي! على العكس هم جبناء لأنهم ثلاثة قاموا بقتله، وربنا أعطاه أحسن شهادة وأعلى مرتبة”.
ويقول والد الشهيد محمد وثورة غضب تلوح في عينيه: “إن استشهاد محمد أبو خضير سيبقى وصمة عار على جبين الاحتلال الاسرائيلي في حرقة وقتله، فهذه القضية التي لم ولن تحدث في التاريخ الحديث ولا القديم أن يُحرق إنسان وهو حي، إلا عند الصهاينة النازيين الجدد”.
” لا نعوِّل على القضاء الاسرائيلي”
ويضيف: “لا أعول على القضاء الاسرائيلي قطعيا فالقضاء الاسرائيلي هو قضاء أبارتهايد عنصري، يميز بين الفلسطيني واليهودي، وإن لم تكن هناك نتيجة لدى المحاكم الاسرائيلية، سنتوجه الى المحاكم الدولية”.
وعن اعترافات المستوطنين في جلسة المحكمة المركزية الأخيرة قال والده (أبو الرائد): “لقد تأثرنا كثيرا عندما أدلى المستوطنين أمام المحكمة باعترافاتهم حيال قتله وحرقه، والاعتداء عليه بالضرب ثم سكب البنزين في فمه، لذلك نحن نطالب القضاء الاسرائيلي بحرقهم مثلما حرقوا محمد، وهدم منازلهم”.
وأكد أن الحكومة الاسرائيلية تشجع المستوطنين على هذه الاعتداءات لأنها حكومة غير داعمة للسلام.
ولفت الى أن استشهاد نجله محمد خلق حالة الغليان والتصدي وخاصة في مدينة القدس وشعفاط التي كانت من أهدأ الأحياء في مدينة القدس المحتلة، حيث تم إيقاف سير القطار الخفيف لمدة 15 يوما، فيما امتدت المقاومة والأحداث لتطال كافة المناطق الفلسطينية.
وقال أبو الرائد ” ابني محمد لن يتكرر حتى إخوته ليسوا مثله، فقد كان بمثابة الدينامو والمحرك في المنزل، تجده دوما معك في كل مكان؛ لقد أنار قبل استشهاده حي شعفاط بأكمله مع حلول شهر رمضان”.
وأنهى حديثه قائلا: ” لن تخمد النار التي اشتعلت في قلوبنا، ونحن نتابع قضيته عبر المحاكم الاسرائيلية حتى لا تتكرر مأساة محمد ويقتل المستوطنون غيره، يكفي أننا نعيش في الألم كل يوم؛ هم حرقوا محمد مرة واحدة، ونحن نحرق كل يوم، بل نحرق في اليوم عشرات المرات”.