جبهة اللغة العربية للمواطنين العرب في اسرائيل لا تقل أهمية عن جبهة الصراع القومي الفلسطينية – الاسرائيلية، خاصة بين المواطنين الفلسطينيين العرب داخل الخط الأخضر بمواجهة سياسة غير معلنة رسميا لإسقاط اللغة العربية من مكانتها القانونية ومكانتها الفعلية كلغة 20% من المواطنين. في الفترة الأخيرة هناك تقلص في معرفة اللغة العربية حتى لدى اليهود الشرقيين، مع نشوء جيل جديد هم ابناء وأحفاد المهاجرين اليهود من العالم العربي.
الجماهير العربية داخل الخط الأخضر تجاوزت ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية بالغة الصعوبة والخطر على هويتها القومية وثقافتها ولغتها وما زالت تعاني من سياسات الإضطهاد القومي والتمييز العنصري في كل مجالات حياتها، وهي تشكل اليوم أقلية قومية، غير معترف بها كأقلية قومية ، انما كطوائف تمشيا مع السياسة العنصرية التي ترفض الاعتراف بوجود قومية أخرى غير القومية اليهودية في اسرائيل.
مكانة اللغة العربية
جرت مداولات اكاديمية عديدة حول مكانة اللغة العربية، ابرزها مداخلة (قبل عدة سنوات) تحدث فيها المستشرق البروفيسور أمنون كوهين ( من الجامعة العبرية) ، حيث تساءل اذا كانت ” ثنائية اللغة” تختصر الفجوات وتخفي الخلاف بين متكلمي اللغتين ، او انها على العكس ، تشكل اداة لابراز خلاف الرأي؟
طرح سؤالا :” هل الثنائية اللغوية تهدد الخصوصية الثقافية للمتحدثين باللغة العربية الذين يعيشون داخل بحر يتحدث بالعبرية في اسرائيل؟ .. وماذا حققت اللغة القديمة – الجديدة ( العبرية) للستة ملايين مواطن يهودي في الدولة الشابة ، للغة (العربية ) المتأصلة في افواه 250 مليون شخص”؟
في دولة اسرائيل اليوم، اتقان اللغة العبرية هو شرط اولي لنجاح المواطن العربي في جميع المجالات. اللغة العبرية هي لغة العمل والأكاديميا والتجارة والتعامل مع معظم مؤسسات السلطة. معرفة اللغة الانجليزية هي شرط للتقدم الاكاديمي، اليوم بعد الهجرة الروسية الكبيرة أصبحت اللغة الروسية أكثر استعمالا في المؤسسات الرسمية من اللغة العربية، الروسي يجد من يترجم له،أو يتحدث لغته… العربي يجب ان يعرف اللغة العبرية، او يستعين بشخص آخر خاصة لتعبئة النماذج الرسمية. اللغة الام العربية، لغة الوطن الفلسطيني ، تنحسر الى المكان الثالث او الرابع والهامشي في المجتمع الاسرائيلي ومكانتها ضعيفة ايضا في المجتمع العربي نفسه.
جاء في ميثاق استقلال دولة اسرائيل :”الدولة تقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها من غير تمييز في الدين والعنصر والجنس وتؤمن حرية الأديان والضمير والكلام والتعليم والثقافة” لكن الواقع كان نقيضا للميثاق من اليوم الأول، حيث فرض الحكم العسكري على المواطنين العرب، وكان الحكم العسكري أشبه بسلطة مستقلة متخصصة بالعرب، وهو من مخلفات قوانين الانتداب البريطاني، قيدت حرية التجول للمواطنين العرب في وطنهم بدون تصاريح عسكرية، نفذت سياسات الاعتقال الاداري والنفي واثبات الوجود (شبه اعتقال منزلي)ضد قيادات وشخصيات ثقافية بارزة. تحكم جهاز الحكم العسكري بالعمل والوظائف، فرض سطوته خاصة في مجال التعليم بدءا من برامج التعليم وتوظيف المعلمين، فصل عشرات المعلمين الوطنيين الذين شك بإخلاصهم لسياسات الحكم العسكري. فرض حصارا ثقافيا على الأقلية العربية الباقية في وطنها، منع دخول المطبوعات العربية،وكانت رقابة شديدة فيما بعد على كل كتاب حتى على الأعمال الروائية العاطفية، كل ما صدر من كتب محلية مر على رقابة عسكرية، نفس الأمر مع الصحف والمجلات العربية. هذا انعكس سلبا على ثقافتنا وربما أثر ذلك باق حتى اليوم. بعد عام 1967 حدث انفتاح ثقافي مع الأسف في ظروف احتلال كامل الوطن الفلسطيني.. التقى المواطنون العرب في اسرائيل مع ابناء شعبهم في المناطق المحتلة.. كان لقاء مأساويا.. لكنه اول لقاء لأقلية محاصرة مع ابناء شعبها !!
أسرلة اللغة؟
بعض الكلمات العربية دخلت العبرية بلفظ مشوه لدرجة ان العرب باتوا يستعملون اللفظ المشوه في حديثهم باللغة العربية بدل ان يحافظوا على اللفظ الصحيح.. اوساطا عربية واسعة خاصة العمال العرب يستعملون في حياتهم العملية اللغة العبرية فقط وهذا الوضع بدأ يترك ترسبات اجتماعية بخلط تعابير عبرية مع اللغة العربية داخل المنازل وفي الشارع وفي مختلف العلاقات العامة في مجتمعنا العربي. المجتمعات التي فرض التجنيد عليها نجد سيطرة أوسع للغة العبرية في حياتها اليومية، لدرجة تبدو العبرية لغة ام والعربية لغة دخيلة . حتى لو تحدثت مع احدهم بالعربية يرد عليك بالعبرية او بكلمات مختلطة من اللغتين..
هل هزمت اللغة العبرية اللغة العربية في اسرائيل؟
بالطبع لست في باب اعطاء الجواب الحاسم..انما أطرح جوانب مختلفة من هذه الاشكالية المرعبة بكل المقاييس. لا بد من التنويه ان هذا يترك آثاره السلبية على الأجيال الناشئة.
انا مثلا اكتسبت ثقافتي العربية بجهدي الذاتي، بتشجيع ودفع من والدتي بالأساس، حتى أتقنت القراءة وعشقتها وانا في الصف الثالث ابتدائي، لكني واصلت دراستي الثانوية بمدرسة طابعها العبري هو الأساس ، زملائي العرب بنفس الصف غير قادرين اليوم على صياغة رسالة بعشرة اسطر بلغة عربية غير مكسرة وبجمل واضحة مكتملة .
حقا لا أعرف غير القليل جدا من القواعد العربية والنحو والإعراب، قدراتي اللغوية الصياغية لا لبس فيها، معظم ما أنشره لا يمر على مصحح لغوي، لذلك أواجه أحيانا بانتقادات حول أخطاء بقواعد اللغة.. أعرف ان لغتي جيدة، ورغم ان عملي كان يفرض علي استعمال اللغة العبرية لأكثر من 10 ساعات يوميا الا اني عندما اتحدث بالعربية أجتهد ان لا استعمل أي تعبير عبري إطلاقا.. لكني أحيانا لا اجد الاصطلاح العربي المناسب. أحترم اللغة العبرية واستعملها بطلاقة، كتابة وقراءة وحديثا، لكن لي لغتي التي تشكل شخصيتي القومية أيضا. انسان بلا لغة قومية هو كيان يفتقر للهوية الوطنية والإنسانية. من هنا رؤيتي ان محاولات افقار اللغة العربية وإسقاط شرعيتها، وإفقار مكانتها في مجتمعنا الهدف منه هويتنا القومية بالأساس.
في دراسة فريدة من نوعها ، للرئيس السابق لقسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب بروفسور سليمان جبران، حملت عنوان “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة” (نشرت مراجعة مستقلة عن الكتاب) طرح العوامل المؤثرة سلبا وايجابا .
يطرح سليمان جبران تساؤل زميل مترجم مواد تعليمية من العبرية الى العربية، يسأل :” كيف تطورت اللغة العبرية، في مدة قصيرة نسبيا ، من “لغة ميتة” الى لغة عصرية تماما، بينما تعرج لغتنا وراء الحضارة المعاصرة بصعوبة؟”
ويضيف المترجم :”أترجم من الإنكليزية الى العبرية أجد عشرات بل مئات من المصطلحات الحديثة وجدوا لها البديل العبري حتى شاع على الألسن ، بينما يصعب وأحيانا يتعذر علي ايجاد البديل العربي المناسب رغم استعانتي بكل القواميس المتاحة “.
ينوه جبران:” السبب الأول في رأينا ، وليس الأهم بالضرورة ، ان العبرية أكثر طواعية من العربية، فالعبرية ” تخلصت ” منذ عهد بعيد من حركة الآخر وعلامات الاعراب الأخرى ، كما حدث في لغتنا المحكية ….. ثم ان نحو العبرية الحديثة سهل طيع، تكاد تصوغ الجملة فيه كما ترغب، دونما خوف من الوقوع في “الممنوع ” أو غير المألوف على الأقل”.
يقارن ذلك مع وضع اللغة العربية المختلف .:” عالم مترامي الأطراف . اذاعات وفضائيات وصحف لا تعد ولا تحصى، مجامع لغوية بدل مجمع واحد مشترك وصوتها لا يكاد يسمع” . يستنتج ان اللغة العربية لا تتطور بمساعدة المؤسسات والهيئات ، بل يمكن القول انها تتطور رغم المؤسسات ورغم “اللغويين” الذين يعترضون على كل تجديد في المعجم أو النحو كانما التجديد عمل منكر”.
اذا كانت هذه هي حال اللغة العربية في موطنها ، فماذا تنتظرون ممن واجه سياسة تجهيل مريعة في السنوات الاولى للدولة يوم كان يفصل كل معلم وطني أو لا يتماثل مع السلطة ولا يلتزم بما اعدوا له من مواد التدريس؟
ان مساحة اللغة العربية في حياتنا داخل اسرائيل لا تتعدى 20% من ساعات يومنا، وعلى الأقل 50% من وقتنا نفكر ونتحدث بالعبرية مع بعض الخلط لكلمات عربية . هذا عدا اعتمادنا على الأخبار والتقارير الاخبارية الراقية والمثيرة بالعبرية ، حيث النقد وعدم الصمت على تجاوزات المسؤولين الرسميين او غير الرسميين ولا أظن ان ذلك له مثيلا حتى في الغرب الدمقراطي.
السؤال الرهيب أكثر: هل حال اللغة العربية في مواطنها العربية أفضل من حال اللغة العربية في اسرائيل ؟
كم من المواطنين العرب ملمين بلغة عربية سليمة؟
ما هي نسبة المواطنين العرب الذين يعرفون لغة الصحافة ( اللغة العربية الفصحى السهلة ) ويفهونها ؟
عندما يكون 80% من سكان العالم العربي فقراء أو تحت خط الفقر فهل يحتاجون الى تعلم لغة ما عربية أو غيرها؟
ان تطوير اللغة العربية يتعلق بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعالم العربي، نحو نهضة اقتصادية اجتماعية علمية و ثقافية ولغوي. في واقعنا المحلي نواجه يوميا تحديات خطر اضعاف العربية وتقليص دورها في حياتنا مما يعني تشويه لهويتنا القومية. وهذا ما يجب ان نعيد حساباتنا لمواجهته.