بناء وتربية الأجيال أمر من الأمور المهمة في الحياة، وهذه التربية لا بد أن تقوم على أساس قوي من المنهج السليم، والعقيدة الصافية التي لا يخالطها أي شائبة؛ لأن التربية قضية من القضايا الجوهرية في الأمة، ولا بد من توفر المربي المتمكن، والناجح الذي يستطيع أن يصنع الأجيال وفق ما تمليه علينا عقيدتنا، ويقرره ديننا.
وتربية الأجيال لها عدة أطراف لا بد من أن تجتمع لتحقق هذا الهدف وهو إخراج الجيل الفريد، وهذه الأطراف هي:
1. الأسرة.
2. المدرسة.
3. المعلم.
فهذه الثلاثة العناصر هي الأركان الأساسية التي تقوم عليها قضية تربية وبناء الأجيال، وإن اختل أحد هذه الأركان، أو ظهر القصور في أحدها؛ أثر ذلك سلباً على عملية بناء وتربية الجيل المسلم.
إن الهدف من تربية الأجيال هو إخراج جيل على منوال السلف الصالح، متمسك بدينه وعقيدته الإسلامية وفق ضوابط ومعايير معينة ليتم إعدادهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم، ويحميهم من كل مظاهر الغزو الثقافي الذي يسعى الأعداء لنشره في أوساط الجيل بهدف إخراجهم وإبعادهم عن عقيدتهم، ونشر الرذيلة في أوساطهم.
ونحن في هذا المقام لا بد من أن نتطرق لأركان التربية الثلاثة؛ كي نتعرف على الواجبات المناطة على كل ركن من هذه الأركان؛ سعياً منا إلى أن نضع ولو شيئاً يسيراً في هذا الموضوع لننظر إلى الهدف المراد من هذا الموضوع.
أولاً: الأسرة:
الأسرة هي اللبنة الأولى في التربية، والتي تقع عليها المسؤولية العظمى في بناء الأجيال، وتخريجهم إلى الواقع، ولهذا فإن الله أمر على أن يترحم العبد على والديه بسبب تربيتهما له فقال: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}1، وحين تربي الأسرة طفلها فإنها تشكل اتجاهاته وميولاته وفق معايير معينة؛ لتعينهم على تكوين النظرة السليمة للحياة، وهذه التربية مقترنة بالتعليم الذي يصقل ملكات الأفراد، وينمي مواهبهم بهدف تهذيب الأخلاق، وإبعادهم عن كل طرق الانحراف والضياع، وهنا فإن على الأسرة أن تربي الأبناء على عدة أمور منها:
1) على الأسرة أن تربي أبناءها على حب الله – عز وجل -، والأدب معه، ومع كلامه، ومع رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، ومع كلامه، وغرس ذلك في نفوسهم، وتنشئتهم عليه، وفي هذا امتثال لقول الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}2.
2) المحافظة على شعائر الدين الظاهرة والباطنة، وجعلها من الأمور التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقصر عن أدائها، أو يتنازل عنها: كالمحافظة على الجمعة والجماعة، ونحوها من شعائر الدين.
3) الاهتمام بحفظ كتاب الله – عز وجل -، حفظاً متقناً عن ظهر قلب.
4) التربية على العقيدة السليمة التي لا تخالطها البدع والأهواء، وعلى ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وأصحابه الكرام – رضي الله عنهم -، وعدم الاستهانة بأمر من أمور العقيدة.
5) التربية على تعظيم حرمات الله – تبارك وتعالى – وشعائره {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}3، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}4.
6) التربية على عقيدة الولاء والبراء، وعدم موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}5، وتعريفه بأن هؤلاء هم أعداء حقيقيون لا يريدون للأمة المسلمة الخير ولا الصلاح {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}6، والكشف له عن مخططات العدو الكافر الاستعمارية سواء كانت عبر الغزو الثقافي، أو الغزو العسكري، وكل وسائل الأعداء.
هذه الأمور من أهم الأمور في تربية الأبناء داخل الأسرة المسلمة، وتنشئتهم عليها، وعلى أن تكون من منهج حياته وسلوكه، حتى إذا كبر ودخل إلى المحضن الثاني من محاضن التربية يكون قد ألمّ بأهم الأمور في حياته الدينية، وهنا ننتقل إلى المحضن الثاني.
ثانياً: المدرسة:
على عاتق القائمين على العملية التربوية في المدارس تقع مسؤولية كبيرة في تربية الأجيال، وبناءها بناءً صحيحاً على المنهج الذي أراده الله – عز وجل -، وأراده رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا يكمل دور المدرسة إلا بالتواصل مع المحضن الأول والأساس ألا وهو الأسرة، فبالتواصل مع الأسرة توجد لنا عملية تكاملية في التربية، ودور المدرسة مكمل لدور الأسرة، فالمدرسة تعمل على تأكيد المفاهيم الصحيحة التي تربى عليها الناشئة في الأسرة، لأن دور المدرسة لا يقتصر على التعلم فقط بل هو أكبر من ذلك، فدورها يشمل التربية والتعليم، والتثقيف، وتصحيح العقائد… إلخ، ولهذا فإن على المدرس مراعاة كثير من الأمور منها:
1) أن المدرسة هي المحضن الذي يتلقى الطالب فيه العلم والتربية، فهي مكان القدوة، والتزود بالأخلاق، والتجدد في التفكير.
2) أن الطالب في المدرسة أمانة، وعلى القائمين على هذا المكان استشعار حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – حيث يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته… الحديث))7، وأن على المدرسة غرس المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وإزالة البدع التي تنتشر من خلال ما هو سائد في أوساط المجتمع.
3) واجب المدرسة تنمية الأخلاق الحسنة الفاضلة، والقضاء على الأخلاق السيئة الفاسدة، ومعالجة الأخطاء التي تحصل من قبل الطالب بالإقناع، والإرشاد إلى السلوك السليم.
4) ودور المدرسة يتنوع بتنوع المراحل الدراسية التي يمر بها الطالب، وعلى المدرسة متمثلة في القائمين عليها والمدرسين؛ فهم هذه النقطة ليسهل التعامل مع الطلبة، وفهم نفسياتهم، وميولاتهم.
5) إن المدرسة في نظر الطالب تمثل القدوة والأسوة، وهو ينهل منها بدون تفريق بين الغث والسمين، فإذا علم القائمون هذه القضية فعليهم أن يكونوا قدوة حسنة متمثلين الأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، والذي يجعل من المدرسة مكاناًً يحبه كل طالب، ويتشوق إليه كل تلميذ.
ثالثاً: المعلم أو المربي:
فالمعلم هو الأب الثاني للطالب، وهو المصدر الأول من مصادر تلقي الطالب المعلومات، والأخلاق، والمعاملات، وغيرها من الأمور الهامة في حياة الطالب، بل إن المدرس هو المربي الذي يستطيع أن يوجه سلوك الطالب سلباً أو إيجاباً؛ لأنه قدوة يقتدي به الطالب في السلوك، والأخلاقيات، والتعامل … إلخ، ولهذا فإن المدرس أو بالأصح المربي تقع عليه مسؤولية عظيمة في بناء الأجيال؛ لأجل هذا كله ينبغي أن يكون المربي ذو صفات لا بد من توافرها فيه من هذه الصفات:
1. «العلم: فالعلم سلاح، وعدَّة المربي في عملية التربية، فلابد أن يكون لديه قدر من العلم الشرعي، إضافة إلى فقه الواقع المعاصر، والثقافة العالية التي تفوق كل تخيلات الطالب؛ حتى إذا أتى سؤال من الطالب عن شيء ما يستطيع المربي أن يجيب، أما المربي الذي تنحصر ثقافته في إطار معين، أو هو محدود الثقافة؛ فإنه يحول بجهله بين تلامذته وبين الحق.
2. الأمانة بشتى صورها ومظاهرها، فمن مظاهر الأمانة أن يكون المربي حريصاً على أداء العبادات، آمراً بها، ملتزماً بالشرع في شكله الظاهر والباطن، فيكون قدوة في بيته ومجتمعه، متحلياً بالأمانة، يسلك في حياته سلوكاً حسناً، وخُلُقاً فاضلاً مع القريب والبعيد في كل حال، وفي كل مكان؛ لأن هذا الخُلُق منبعه الحرص على حمل الأمانة بمعناها الشامل.
3. يحتاج المربي أن يتعلم أساليب التربية الإسلامية، وأن يتعرف على المراحل التي يمر بها الطالب، لأن كل مرحلة لها قدرات واستعدادات نفسية وجسدية، وعلى حسب تلك القدرات يختار المربي وسائل زرع العقيدة والقيم، وحماية الفطرة السليمة، ولذا نجد اختلاف الوسائل التربوية بين الأطفال إذا اختلفت أعمارهم، بل إن الاتفاق في العمر لا يعني تطابق الوسائل التربوية؛ إذ يختلف باختلاف الطبائع، وعلى المربي أن يعرف ما في عصره من مذاهب هدَّامة، وتيارات فكرية منحرفة، فيعرف ما ينتشر بين الشباب والمراهقين من المخالفات الشرعية التي تَفدُ إلينا؛ ليكون أقدر على مواجهتها ومحاربتها، وتربية الأبناء على الآداب الشَرعية.
4. العدل: والعدل أمر مطلوبٌ في المعاملة وفي كل شيء، حتى أن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – نهى عن تمييز أحد الأولاد بعطاء دون الآخر، إلا أن هناك أسباباً تبيح تمييز بعض الأولاد كاستخدام الحرمان من النفقة عقاباً، وإثابة المحسن بزيادة نفقته، وهذا من الأساليب التربوية للطفل.
5. الحرص: وهو مفهوم تربوي غائبٌ في حياة كثير من الأسر والمربين، فيظنون أن الحرص هو الدلال أو الخوف الزائد عن حده، والملاحقة الدائمة، ومباشرة جميع حاجات الطفل دون الاعتماد عليه، وتلبية جميع رغائبه، والأم التي تمنع ولدها من اللعب خوفاً عليه، وتطعمه بيدها مع قدرته على الاعتماد على نفسه، والأب الذي لا يكلف ولده بأي عمل بحجة أنه صغير؛ كلاهما يفسده، ويجعله اتكالياً، ضعيف الإرادة، عديم التفكير، والدليل المشاهَد هو: الفرق الشاسع بين أبناء القرى والبوادي وبين أبناء المدينة، والحرص الحقيقي المثمر: إحساس متوقد يحمل المربي على تربية ولده، وإن تكبَّد المشاق، أو تألم لذلك الطفل، وله مظاهر منها:
الدعاء: إذ أن الدعوة في ظهر الغيب من الدعوات المستجابة فعن صفوان (وهو ابن عبد الله بن صفوان) وكانت تحته الدرداء قال: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء – رضي الله عنه – في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: ((دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل))8.
المتابعة والملازمة: لأن العملية التربوية مستمرة طويلة الأمد، ولا يكفي فيها التوجيه العابر مهما كان خالصاً صحيحاً.
6. الحزم: وبه قوام التربية، والحازم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، فلا يتساهل في حال تستوجب الشدة، ولا يتشدد في حال تستوجب اللين والرفق، وضابط الحزم: أن يُلزم المربي الطالب بما يحفظ دينه وعقله، وبدنه وماله، وأن يحول بينه وبين ما يضره في دينه ودنياه، وأن يلزمه التقاليد الاجتماعية المرعيَّة في بلده ما لم تعارض الشرع قال ابن الجوزي – رحمه الله -: «فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغْ جاهلاً فقيراً»9، وإذا كان المربي غير حازم فإنه يقع أسير حبه للولد فيدلّله، وينفذ جميع رغائبه، ويترك معاقبته عند الخطأ، فينشأ ضعيف الإرادة، منقاداً للهوى، غير مكترث بالحقوق المفروضة عليه.
7. الصلاح: فإن لصلاح الآباء والأمهات والمربين أثر بالغ في نشأة الأطفال على الخير والهداية – بإذن الله -، وقد قال سبحانه: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}10 ففيه دليل على أن الرجل الصالح يُحْفَظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ودليل آخر هو أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أخرج جيلاً فريداً هم الصحابة – رضي الله عنهم -.
8. الصدق: وهو التزام الحقيقة قولاً وعملاً، والصدق أمر هام في حياة المربي، فالصادق بعيد عن الرياء في العبادات، والفسق في المعاملات، وإخلاف الوعد، وشهادة الزور، وخيانة الأمانات، ومن مظاهر الصدق ألا يكذب المربي على المتربي مهما كان السبب؛ لأن المربي إذا كان صادقاً اقتدى به المتربين، وإن كان كاذباً ولو مرة واحدة أصبح عمله ونصحه هباء، وعليه الوفاء بالوعد الذي وعده للطفل، فإن لم يستطع فليعتذر إليه.
9. الحكمة: وهي وضع كل شيء في موضع، أو بمعنى آخر: تحكيم العقل، وضبط الانفعال، ولا يكفي أن يكون قادراً على ضبط الانفعال، واتباع الأساليب التربوية الناجحة فحسب، بل لابد من استقرار المنهج التربوي المتبع بين أفراد البيت من أم وأب، وجد وجدة، وإخوان، وبين البيت والمدرسة، والشارع والمسجد وغيرها من الأماكن التي يرتادها؛ لأن التناقض سيعرض الطفل لمشكلات نفسية، وعلى هذا ينبغي تعاون الوالدين واتفاقهما على الأسلوب التربوي المناسب، وتعاونهما مع المربي في المدرسة.
فهذه بعض الصفات التي ينبغي أن تتوافر في المربي، وتكون من الأمور الجبليِّة لديه، وكل الأماكن التي هي منهل للطالب ينهل منها العلم، والمعرفة، وعلى الأب وولي الأمر أن يحبب المسجد إلى نفس الطفل، وأن يشعره بأنه في أمس الحاجة لهذا المكان المبارك.
ختاماً:
حين يتوفر في الأمة الأسرة الملتزمة، المتمسكة بتعاليم ربها، وتتوفر المدرسة الناجحة المنضبطة، وفوق كل هذا يأتي القدوة وهو المدرس الناجح، والمربي الذي يستطيع جذب التلاميذ والمتربين إليه (إلى المنهج لا إلى الشخص)، ويستطيع أن يجعل الطالب محباً للمدرسة، والأستاذ بدوره يقوم على محاربة الأخطاء التي تظهر على الطلاب سواء كانت أخلاقية، أو عقدية، أو أي أخطاء كانت، ويعالجها العلاج الصحيح والسليم، ويستطيع أن يسير بالطلاب على المنهج الذي ربى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أصحابه؛ هنا نستطيع القول بأنا نبني جيلاً مسلماً فريداً على منهج النبوة، سائراً على طريق الصحابة – رضي الله عنهم -، وحينها فقط تعود للأمة مكانتها، ويعود للأمة هيبتها التي فُقِدت منها بسبب بعدها في منهج التربية عن المنهج التربوي السليم، النابع من كتاب الله – عز وجل -، وسنة نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم -.
نسأل الله – عز وجل – أن يهدي شباب الأمة، وأن يوفقنا إلى كل خير، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.