نشعر بعزّة وبراحة نفسيّة حينما نتفاخر في مجالسنا بقادتنا القدامى أمثال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وخالد بن الوليد وطارق بن زياد، كما يلذّ لنا أن نذكر، متباهين، أسماء علمائنا في العصور الخالية أمثال الكنديّ وابن سينا وابن خلدون والخوارزميّ والبيرونيّ. ويحنّ الكثيرون منّا إلى الخلافة بل يرغبون بعودتها على الرّغم من أنّ نظام الخلافة وراثيّ منذ زمن معاوية، ودكتاتوريّ بعيد عن روح العصر وعن الدّيمقراطيّة التي تنشدها الشّعوب في أيّامنا، وعلى الرّغم أيضا من أنّ عالمنا العربيّ ما زال يعاني من خلافة آل عثمان التي ربضت على صدره أربعة قرون وما زال يدفع ثمن التّخلّف الذي ورثه عن هذه الخلافة. ويطالب البعض بنظام الشّورى مع أنّ مجالس الشّورى منذ الخلفاء الرّاشدين كان اختيارها غير ديمقراطيّ وكانت قراراتها غير ملزمة للخليفة.
هل هذا يعني بأنّ العقل العربيّ ما زال أسير الماضي وأنّه في حالة عجز عن تكوين رؤيّة مستقبليّة لأنّه عقل ماضويّ يستمتع ويشتهي أن يحيا في الماضي؟
طالب الفيلسوف الانكليزيّ فرنسيس بيكون (1561- 1626) بتحرّر العقل من الأوهام كي نتقدّم. ترى هل تحرّرت عقولنا أم ما زلنا أسرى الأوهام؟
ويذكر المفكّر العربيّ المصريّ مراد وهبة، الذي وصفته المخابرات المصريّة في زمن الرّئيس أنور السّادات بأنّه أخطر أُستاذ جامعيّ في الجامعات المصريّة، بأنّ الإمبراطور فردريك الثّاني كان يعارض رجال الدّين ويقف مع طبقة التّجار التي نشأت حول القصور الإقطاعيّة فنصحه مستشاروه بضرورة ترجمة مؤلفات ابن رشد لأهميّتها في الإصلاح فأصدر قرارا بترجمة مؤلفات ابن رشد وهو ما نتج عنه نهضة أوروبيّة.
كيف حدث أن استدعت أوروبا فلسفة ابن رشد، عالمنا العبقريّ، في سبيل تطوّرها ونهضتها في حين فتح شرقنا العربيّ والإسلاميّ بوّاباته لأفكار التخلّف المعادية للعقل وكفّر ابن رشد ؟
قال الشاعر العملاق أبو العلاء المعرّيّ قبل ألف عام:
كذب الظّنّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء.
هل كان هذا الفكر الذي توّصل إليه المعرّيّ واعتنقه وعلّمه لتلاميذه هو الذي دعا قوى الظّلام لتحطيم تمثاله في معرّة النّعمان؟
لا خلاص لنا من واقعنا المرّ إلا العقل.. نحن بحاجه إلى عقل ناقد ومنفتح على الفكر العالمّي وعلى الحضارة العالميّة يحارب التّلقين ويناقش الحقائق المطلقة في كلّ ميادين الحياة ويخوض في شتّى المواضيع ويحاور الآخر ويعمل على تطوير لغتنا وإنقاذها من قيود قواعد القدماء. نحن بحاجه إلى عقل يخلّصنا من الأوهام التي تفتك مثل السّلّ في جسم عالمنا العرّبي ومثل السّرطان في رأس إنساننا العربيّ، وعندئذ نتخلّص من قوى الظّلام التي تشدّنا إلى التّخلّف وتربطنا به بقيود وحبال متينة، نتخلّص من أوبئة العصر مثل داعش والنّصرة وأخواتهما، نتخلّص من لؤم الأعداء وسالبي خيراتنا، والأهم من كلّ هذا أن نتخلّص من الصّفة الوحيدة التي تميّز العرب عن الأوروبّيّين وعن الأمريكيّين وعن اليابانيّين وعن الكوريّين وعن الصّينيّين وعن.. وعن.. وغيرهم وهي أنّهم متخلّفون .. وكم يؤلمني هذا الواقع.يا شعبي، يا أغلى من روحي، يا أغلى من روحي عندي!!….