قالوا إنه من غير المقبول أن نطلق اسم طيباوي على شارع او مؤسسة في الطيبة، وذلك تجنبا لما قد تحمله هذه اللفتة من حساسية ارضاء البعض واغضاب البعض الآخر من الاهالي. إن تعليلا كهذا قد يبدو عقلانيا للغاية لا سيما في بلد يمزقه الاستقطاب العائلي طولا وعرضا وعمقا. ومع ذلك يبقى للحديث تتمة، وهنا آتي عليها.
يدور الحديث هنا حول الشاعر الطيباوي الراحل محمود الدسوقي، وعن واجبنا في تخليد ذكراه في بلده بإطلاق اسمه على مؤسسة تعليمية في المدينة او على الاقل على أحد شوارعها المحورية.
لن اعود على ما ذكر الجميع، وانا احدهم، في كتابات كثيرة حول احقية الشاعر الدسوقي في تبوء مكانة لائقة في واجهة حياتنا الثقافية والتربوية، لا تغيب ولا تضمحل مع السنين. ولن اغوص في لوم البعض على تقصيرهم في رد الجميل لشاعر امسك بأيديهم، ذات يوم، قبل بزوغ بوصلتهم الفكرية والادبية واصطحبهم الى منصات المحافل هنا وهناك حتى باتوا وجوها مألوفة واسماءً معروفة فأعلنوا استقلالهم ورفعوا راياتهم فوق مؤلفات ذيلوها بأسمائهم ثم انتشروا بمشية الطاووس لا ينظرون الى الخلف!
ليس هذا محور القول، وانما لو نظرنا الى مدارس الطيبة لوجدنا ان معظمها يحمل اسماءً لا علاقة لها بالتربية والتعليم ولا حتى بالثقافة العربية العامة، وأن هناك اسماءً ليست عربية حتى. فكيف لنا ان نتجاهل أسماءً عربية معاصرة ابدعت في الادب والثقافة والعلوم لا تزين مدارسنا مثل نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم واحمد شوقي وغيرهم او حتى الشاعر ابراهيم طوقان الفلسطيني؟
كيف لنا ان نطلق اسم ذات الشخصية “ابن سينا” على مدرستين منفصلتين؟ من منا يعتبر “ابن سينا” اقرب اليه من ابن بلده الشاعر الدسوقي، حتى تحمل مدرستان اسمه بينما يبقى شاعرنا المتوج نسيا منسيا؟ هل يعلم اهل الطيبة ان ثلاثا من مدارسهم تحمل اسماء غير عربية لثلاث شخصيات من مدينة بخارى في اوزبكستان؟ هنا نلاحظ بوضوح سوء اختيار الاسماء بل نشتم رائحة خلافات عميقة لا يستوي عندها الرأي الموحد عند تسمية مقبولة. ولذا ارى ان الاعتراف بمبدعينا المحليين واجبنا من الدرجة الاولى، مع احترامي الشديد وتقديري الكامل لكل الاسماء التي تكلل مدارسنا.
وعليه، لا اقرب الى المنطق والعقل من تقبل اسم مبدع طيباوي عاش مصلوبا على محراب الكلمة ومات ينزف القهر على مذبح الإبداع. حمل بلده عاليا الى الجهات الاربع كعلامة فارقة من سيرته الذاتية وزرع اسمها بين البلدات المشار اليها بالبنان في الانتماء والابداع منذ خمسينيات القرن الماضي. لا أصدق من ان تحمل إحدى مدرستي “ابن سينا” اسمه، وليسامحني انصار العلامة ابن سينا، فقد منحناه ما يستحق وأكثر، ودعونا ندق في هذا الشق بالذات لافتة تحمل اسم ابن الطيبة.
ان ما يعتبره البعض قاعدة لا ينبغي الخروج عنها والقاضية بعدم تسمية معالم من مدينة الطيبة بأسماء اهلها، قد باتت من الماضي وبانت على انها ليست حديثا شريفا او قانونا مدونا، ويمكن في حالات خاصة التغاضي عنها رغم ما بها من تسويغ مقنع، فقد تدخل القدر ودفعنا الى عدم الأخذ بهذا الاعتبار حين اطلقنا اسم المربي الراحل يوسف شاهين على الكلية التي ادارها سنين طويلة.
اطلقنا اسم الراحل شاهين على الكلية، وبحق، لأننا وجدنا في انفسنا القوة والشجاعة والحماسة لمواجهة الجريمة بتخليد اسم الضحية فرسخنا مكانة الراحل الى الابد في ذات المكان الذي سقط فيه تحديا لكل من تسول له نفسه ان يغير وجهة القدر التاريخي.
الآن نقف بصدد حالة أخرى لا يختلف عليها اثنان بوجوب اطلاق اسم الشاعر الدسوقي على مؤسسة تليق به ويليق بها، ولا افضل من احدى هاتيك المدرستين!
لذا اهيب بالجميع، من مسؤولين في البلدية الى الشخصيات العامة ذات الصلة الى لجنة التسميات، بأن تعالوا نترك جانبا التعامل الشخصي مع الامر وان ننتبه الى الجانب الموضوعي الخالص وننصف شاعرا تباهت به كل البلاد العربية من اقصاها الى اقصاها فلقبته بـ”شاعر المقاومة الاول”، قبل حتى زياد ودرويش والقاسم، فذاع صيته من المشرق الى المغرب العربي ونال التكريم تلو التكريم حتى بلغ صيته مسامع اوروبية لا تفهم اللغة العربية ولكنها تفهم لغة الابداع فاعترفت به واعترفت له وأجلسته في جناح المبدعين لدى اقوامهم.
هنا لم تقف فلسطين صامتة والمجد يتقاذف ابنها عربيا ودوليا، فكان عرفات على موعد معه عام 1994 ليقلده وسام الاعتراف، وكأن هذه كانت من اولى مهام عرفات العائد الى وطنه بعد هجرة عقود طويلة.
صحيح ان الدسوقي لم يكن من المكرمين اسرائيليا بـ”جائزة الدولة” المالية، أي انه لم يكن من المرضي عنهم امام الجهات المسؤولة في اسرائيل، وهو ما لا يحط من قدره، بل يزيده تكريما، ولكني لا اعتقد ان في ذلك ما يحرج البعض في الموافقة على اطلاق اسم الشاعر الدسوقي على إحدى مدرستي “ابن سينا” في الطيبة.