التقينا مجموعة كبيرة من سكان المدن والقرى العربية في المثلث الجنوبي ، في مجمع رامي ليفي في كفار سابا، وتوجه الي أحدهم متسائلا مستنكرا ! ايعجبك هذا يا شيخ ؟!
حينها قررت أن أكتب رسالة نصائح أخوية حبية لأخي العزيز الحبيب، التاجر الصائم ، وأذكره انَّ الرزق الطيب الحلال هو ما اكتسب عن طريق عمل مشروع، وحرفة لا ريبة فيها، وعلى التاجر المسلم أن يبتعد عنَّ الأموال التي تأتي عن طريق الغش والخداع والربا ، لأنهاّ قَبَسٌ من نار، يتأجج في بطون آكليها ! وقد جاء في الحديث عن أبى هريرة – رضي الله عنه – «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مَرَّ على صُبْرَةِ طعام، فأدخل يده فيها، فنالتْ أصابعه بَلَلاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشّنا فليس منا»، أخرجه مسلم.
أخي التاجر الصائم :اجعل قدوتك الرسول التاجر الأمين – عليه الصلاة والسلام- والصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – الذين ملأوا طباق الأرض عدلاً، وفتحوا الدول والبلاد وقلوب البشر بأخلاقهم التجارية الاسلامية الراقية !، ومن هؤلاء الصحابة الكرام عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – الذي كان مثالاً للتاجر الصادق الأمين الواثق بربه، حتى أصبح من كبار التُّجار في عصره، فلما سُئِل عن سرِّ ذلك، قال :( لمْ أبع معيباً، ولم أُرِد ربحاً كثيراً، والله يبارك لمن يشاء…. لو رفعتُ حجراً لوجدتُ تحته مالاً ).
اخي التاجر أذكَّركُ : اياك ثم اياك أنَّ تشغلَك تجارتُك عن ذكر الله تعالى، ولا عن الصلاةِ، ولا عن تلاوةِ كتاب الله تعالى، ولا عن أداءِ حقِّ اللهِ في ماله، فقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين، فقال: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ النور : 37
أخلاق التاجر المسلم :
1) : الصدق والأمانة في وعودِه، ووفائه بها، وصدقه في قوله ووصفه لسلعتِه، وكما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء)
وروي أنه في أحد الأيام خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى ، فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التجار))، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارَهم إليه، فقال: (إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجَّارًا، إلا مَن اتَّقى الله، وبرَّ، وصدق).
2) الابتعاد عن الشبهات: وذلك بأن يتحرَّى التاجرُ صحةَ معاملاته وموافقتها لشرع الله تعالى، ويبتعد عن بيع الحرام كالدخان والمعسل للأرجيلي و.. أوأكل أموال الرِبًا، كما أخبر صلى الله عليه وسلم: ( إن الحلالَ بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يَعلَمُهنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات، استبرَأَ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام !).
3) الإكثار من الصدقات وأعمال الخير والبر ، وعدم الاكتفاء فقط بزكاة ماله، وأيضا دعم بيوت الفقراءوالمحتاجين ! .
4) التبكير في طلب الرزق: فبركة الرزق في البكور، والتاجرُ الذي يتأخر في الذَّهاب إلى تجارته يفوته خير كثير ، ويُحرَمُ بركة الرزق التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم للمبكِّرين، فقال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها ) .
5) التيسيرُ والتغاضي عن المعسرين: وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن يتحلَّى بخلق السماحة والتيسير في اقتضاء حقِّه من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ الله رجلاً سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)، وأخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن تاجر من بني إسرائيل كان يتعاملُ مع الناس بالتيسير والسماحة، فكان جزاؤه من الله تعالى أنْ تجاوَزَ عنه : (كان تاجرٌ يداين الناس، فإذا رأى معسرًا، قال لفِتيانه: تجاوَزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوزَ عنا؛ فتجاوز الله عنه).
7) النية الصالحة : وهي سبب لتحويل العادات والتجارة إلى عبادات، وتتمثل في ابتغاء الخير لنفسه وإعفافها عن الحرام ، واتخاذ التجارة وسيلة للمشاركة في بناء الأمةً، وتحريرها من الاعتماد على الآخرين .
8) التحلي بالأخلاق الحسنة الفاضلة : مثل الصدق والأمانة والوفاء بالعقود وحسن القضاء والاقتضاء وإنظار المعسر، وإعطاء الحقوق لأهلها .
9) التجارة في الطيبات: فالتاجر المسلم لا يستوي عنده الخبيث والطيب ولو أعجبه كثرة الخبيث ! بل يحل الحلال ويحرم الحرام !، فلا تستزله لعاعة الدنيا وبريق الربح.
10) الالتزام باللوائح والقوانين التي لا تخالف الشريعة الإسلامية حتى لا يضع نفسه تحت طائلة العقوبات المالية في حالة مخالفة هذه اللوائح .
11 ) موالاة المؤمنين فالتاجر المسلم ناصح لأمته، وفيٌ لعهدها لا يعاون عليها خصومها، ولا يدخل في استثمار مع أعدائها ليلحق بها الضرر.
12) المحافظة على ترتيب وتنسيق ونظافة المكان ! ويلتزم ببضاعة ذات جودة عالية ! 13) البسمة الجميلة والكلمة الطيبة الراقية، تفتح لك قلوب عباده ، ويحبون التجارة معك.!
كما أنه من المفيد هنا أن نستعرِضَ جملةً من السلوكيات المحرَّمة التي ينتهِجُها بعضُ التجَّار، مُتنكِّبين شرعَ الله تعالى وأوامرَه، آكلين أموالَ الناس بالباطل :
1- التطفيف: وهو أن يتلاعَبَ التاجرُ في الكيل أو الوزن أو العدد، وقد حذَّر الله تعالى من ذلك أشدَّ التحذير، وتوعَّد فاعلَه بالعذاب الشديد، فقال سبحانه التحذير : ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وزنوهم يخسرون …) قال المفسرون: نزلت في رجل يُعْرف بـ «أبي جهينة»، كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر….، وهذا وعيدٌ وتهديد لكل تاجر طَفَّفَ الكيل والوزن، وقد أهلك الله تعالى قومَ مدين؛ لتطفيفهم الكيل والميزان، وذلك لما جاءهم شعيب عليه السلام فنهاهم عن ذلك فأبَوْا، فكانت عاقبتهم الهلاك والدمار.
2- الغش: وهو أن يخفي التاجرُ عيوبَ بضاعته، ويُظهِرَ محاسنَها، أو يزوِّر تاريخ صلاحيتها، أو يكذِبَ في بلد الصنع والإنتاج.
3- الحلف الكاذب: وهو أن يحلف التاجرُ بالله كاذبًا؛ ليقنع المشتريَ بجودة وسعر البضاعة، أو بصلاحيتها، أو ليخفيَ عُيوبها، أو مصدرها، أو …، والحلف في البيع مكروهٌ ولو كان البائع صادقًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحلفُ مَنْفَقةٌ للسلعة، مَمْحَقَةٌ للبرَكة ) ، أما إذا كان البائع كاذبًا في حلفه، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير، وأوعد فاعلَها بالعذاب الأليم : (ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم الله يوم القيامة، ولا يَنظُرُ إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم )، قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر : خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله ؟ قال الرسول: (المُسْبلُ، والمَنَّان، والمُنَفِّقُ سلعتَه بالحلف الكاذب).
4- الاحتكار: لقد أباح الإسلام للتاجر أن يربح، ولم يجعل للربح حداً، بشرط أن يبتعد التاجر عن الاحتكار والاستغلال والجشعِّ، لأن ذلك يتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يحث على مساعدة الفقراء والمحتاجين، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الاحتكار ، وأخبر بأن فاعلَه آثم خاطئ، فقال : (مَن احتكر، فهو خاطئ) .
5) التاجر المؤمن يتجنب الربا وكل وسيلة إليه من العقود الفاسدة، فالمرابون محاربون لله ورسوله، والربا من السبع الموبقات، وصاحبه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6) تجنب أكل أموال الناس بالباطل، فحرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه، ومن صور أكل أموال الناس بالباطل الغش والتدليس والمقامرة والغرر والاحتكار والرشوة وما شابه ذلك.
7)تجنب الإضرار بالآخرين: فالمستثمر المسلم منافس شريف تحكمه في جميع أعماله الاستثمارية قاعدة نبوية عظيمة: ( لا ضرر ولا ضرار .) .
8) على التاجر أن يتعلم أحكام المعاملات في الشريعة الإسلامية،فإن العلم قائد، والعمل تابع. وقد ثبت أن أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه كان يضرب من وجده في السوق وهو لا يعرف أحكام البيع والشراء، ويقول:( لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في ديننا) !.
وفيما يلي نموذج وصورة مشرقة ومشرفة من تاريخنا الاسلامي العريق للتاجر المسلم الصدوق:( فقد أصاب الناس القحط في زمن الصديق عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقدمت لعثمان رضي الله عنه ألف راحلة من بلاد الشام تحمل البُر والطعام، فغدا التجار عليه كلهم يريد شراءها منه, لا للتكسب ولا للاحتكار ولا من أجل رفع الأسعار, وإنما ليوسّعوا على فقراء المدينة في هذه النازلة ! فجعــل التجار يساومون عثمان على شراء هذه السلعة، حتى أربحوه بالعشرة خمسة عشر، فأبــى ورفض ، وأنفقها في سوق المدينة على الفقراء والمساكين) ، ما أعظمك وما اروعك يا أمير المؤمنين ! حقا ربح البيع يا ذا النورين.
وختامه مسك التاجر القدوة سلعة غابت عن كثير من جوانب حياتنا، وغيابها يمثل خطرا عظيما على المجتمعات البشرية ، ذلك لأنّ التاجر الأمين يمثل وجوده في المجتمع ركيزة قوية وعظيمة من ركائز الأمن الاجتماعي.
اخوكم الداعية الشيخ ابو عكرمة الطيباوي