من الكتابة إلى “الاستكتاب” ومن التنقيح إلى “التلقيح” مأساة المشهد الأدبيّ كانعكاس وامتداد لما نمرّ به من أوضاع، بقلم: مسلم محاميد

لا يتطوّر فَنٌّ ولا أدبٌ في أمّةٍ إلّا إذا كان وراءَه نقدٌ بنّاءٌ يُبرِزُ حسناتِه ليحافَظ عليها، ويكشفُ سيّئاته لتُهَذّبَ أو تُشَذَّبَ أو يُتخلَّصَ منها، على أن ينطلقَ في جهده من مبدأ الحفاظ على اللغة، والغيرة على إرثها وآدابها لكي ينهض بها نحو السماء.

      وحتّى لو كان النقد -كما يرى كثيرون- لا يتعدّى كونه رأيًا ذوقيًّا مشفوعًا بثقافة واسعة تؤتي أُكُلَ المقارنات ووضع التجارب المختلفة في موازين شتّى، تتّكئُ على أريكة النحو وتستلقي على سُرُر البلاغةِ، فتتحفُ المتلقّي برأيٍ أقربَ إلى الذاتيّة واللّا-موضوعيّة، إلّا أنّ دوره ضروريٌّ وحيويٌّ لا يمكن الاستغناء عنه بأيّ حال من الأحوال.

      ورغم الجدليّة والإشكاليّة حول موضوعيّة أو لا موضوعيّة النقد -فقد يرفضُ شخصٌ معيّن ما يقبلهُ شخصٌ آخر من آراء النقّاد حول نصّ ما- فإنّ النقدَ -مع ذلك- يُحدثُ جدليّة وحراكًا يضعان النصّ الأدبيّ على المحكّ الاجتماعيّ والثقافيّ ويولّدان نقاشًا ثريًّا حتّى وإن كان مليئًا بمشاحنات ومناكفات النقيض ونقيضه، فتِلْكُم هي الجدليّة المولِّدة للجديد من احتكاك واحتدام الحاليّ أو القديم.

      ولا أعني بالنقد هنا مجرّد قراءاتٍ عابرة لنصوص متفرّقة أو اطّلاعًا على نتاج شاعر أو أديب أو ثلّة من هؤلاء أو أولائك، ثمّ الكتابة عنها وتحليها أو تفكيكها أو نقد ما بها من هنّات وأخطاء وما إلى ذلك، بل أقصد بالنقد منظومةً نقديّة متكاملةً تشكّل في وجودها ورسوخ مفاهيمها وقوّتها آليّةَ الحكم المؤدّب، ومنظومة القانون غير المكتوب، ولُبَّ الدستور التوافقيّ التي بيدها أن تجلد دون سوط وتقبِّل دون شفاه وتصفّق دون كفّين لكلّ عمل أدبيّ بما يستحقّ، فترتقي بالحركة الأدبيّة ارتقاء السماء بنجومها وتضع الأدب في نصابه الحقيقيّ، في مكانة الرسالة الفاعلة المسؤولة لا في مكان التسلية العابرة.

      وبالإضافة إلى المنظومة النقديّة الحقيقيّة بدلالاتها وبوظائفها وبنشاطاتها المباشرة، هنالك ما يندرج تحت عنوانها كنتيجة لتحصيل حاصل وجودها، وهي تلك المنظومة التي تعمل على تحرير النصوص والإصدارات وتنقيحها وتحكيمها والمصادقة عليها قبل الإصدار. هذه المنظومة هي الرادع لكلّ متطفّل على الأدب، وهي الموجّهُ لكلّ مَن يريد أن يعتلي منصّته ويخوض ميدانه وساحته. فبوجودها لن يتجرّأ المتطفّلون على الأدب ولن يقتحموا حقوله اقتحام الغازين متطفّلين عليه وهم يظنّون أنّهم يُحسنون صُنعًا وإنّما هم في الحقيقة يقوّضون أركان اللغة ويستأصلون جذور الإرث العربيّ.

      إنّ الأدب في العالم العربيّ يعاني من هذا الوجع ممتدًّا من محيطه إلى خليجه، متأثّرًا بما يمرّ به من أوضاع ومن حالات لا يُحسد عليها، كالاستعمار والهزائم المتتالية والانحدار الاجتماعيّ الكبير وغيرها من الأسباب. فإنّنا نفتقد اليوم إلى حركةٍ نقديّة جادّة، ممّا جعلَ المشهد الثقافيّ كلّه يعاني من تراجع شديد. رغم المفارقة الكبيرة التي تتمثّل في كثرة الأقلام وقلّة الإبداع.

      وحينَ أتحدّث عن المشهد الأدبيّ في فلسطين عمومًا، وفي الداخل الفلسطينيّ خصوصًا، فإنّ تردّي الحالة قد تعدّى حدودَ الفوضى والإسفاف والادّعاء. والأنكى فإنّ كلَّ مدّعٍ يمكنه أن يلج بوّابة الأدب، بل ويقتحمها دون حساب أو مساءلة، ويُغَضُّ الطرفُ عن أخطائه النحويّة واللغويّة والإملائيّة والتعبيريّة التي تجاوز حدودَ كونها مصائب وجرائم تمارَس علنًا بحقّ اللغة دون أن يجد هؤلاء من يوقفهم عند حدّهم.

      ولعلّ سائلًا يسألُ بحرقةٍ قاتلة: أين دور المثقّفين الحقيقيّين وأين هم النقّاد، وأين تلك المنظومة المُراقِبة التي تسمح وتمنع بحسب جودة العمل الأدبيّ؟ أليس ما يدور انتهاكًا صارخًا للغتنا وإرثنا؟ أليس كلّ ذلك مؤشّرًا لاتّجاهنا نحو هاويةٍ ثقافيّة سحيقة؟

      أقول بحسرة شديدة: إنّ دورَ المثقّفين الحقيقيّين ومنظومة النقد قد تراجع وانحسر، فهم مُغَيَّبونَ من غيرِهم، مُغَيِّبونَ لأنفسهم. إنّ نشاط الحركة النقديّة، وهو نشاطٌ محدود أصلًا، قد هبط كثيرًا. والحركة النقديّة تعاني من الانحسار والانحصار، فهي تنحسرُ بمرور الزمن، وتنحصر في أقلام معيّنة، تقودها إليها اعتبارات طائفيّة أو حزبيّة أو فئويّة أو جنسويّة. فقد قاد الانحسار إلى هذا الانحصار في ظاهرة استكتاب الناقد. فبعدَ أن كان النقّاد يختارون عمومًا نصوص نقدهم، مع ادّعائنا هنا أنّ هذا الاختيار لم يخلُ أيضًا من الاعتبارات المذكورة، أصبح النقّادُ يُستَكتَبون من قبل بعض الأقلام التي في كثير من الأحيان لا ترقى إلى مستوى النصّ الأدبيّ. والمصيبة أنّ كثيرًا من النقّاد يفرّون إلى ذلك النداء ملبّين، ويفاجأ أحدُنا أحيانًا أنّ ناقدًا ما يأخذ بتمجيد نصّ لا يرتقي ليكون مجرّد موضوع إنشائيّ بائس، وأحيانًا تجده يُبرّر الأخطاء والهنّات والإخفاقات على أنّها من التجديد والإبداع المغاير.

      ثمّ إنّ الاستكتاب لا يقف عند حدّ استكتاب النقّاد، بل يتعدّى ذلك إلى ما هو أشدّ وطأة على الأدب وأشدُّ تنكيلًا بالإرث العربيّ، وهو ظاهرة تلقيح النصوص.

      فقد نجد نصًّا قويًا لكاتب أو كاتبة ما، وهذا النصّ يكونُ مختلفًا عن النصوص المعهودة عن ذلك الكاتب أو الكاتبة. ثمّ وبعد زمنٍ قصيرٍ تعود حليمة لعادتها القديمة، وتبدأ النصوص الركيكة الضعيفة تظهر في فضاء ذلك الكاتب أو تلك الكاتبة. وهذا مؤشّر واضح إلى ظاهرة خطيرة في الأدب، وهي في ازدياد مستمرّ، وهي ظاهرة تلقيح النصوص بدلًا من تنقيحها.

      فمن الطبيعيّ والمقبول والحقّ، بل ومن الواجب، أن يلجأ أيّ كاتب قاصرٍ عن إعداد مادّة أدبيّة سليمة من حيث النحو واللغة والإملاء، من الطبيعيّ أن يلجأ إلى أهل الذكر ويسألهم. وليس من العيب تنقيح النصوص على أيدي الخبراء. لكنّ العيبَ هو أن تتعدّى عمليّة التنقيح مجرّد المراجعات المشروعة، إلى تلقيح النصّ عن طريق كتابته من جديد أو إدخال روح جديدة عليه حينَ يكونَ جسدًا أدبيًّا ميّتًا، بل وحتّى وصلت الأمور إلى أن يكتُبَ شعراء وكتّاب قادرون نصوصًا لتُنشَر بأسماء أخرى.

      إنّ تردّي الحالة الأدبيّة هو من تردّي الحالة العامّة، فما يصيبُ الأدب من وَهَنٍ وتردٍّ وانهيار، هو ترجمةٌ وامتداد للحالة السياسيّة والاجتماعيّة وما يصيب هذه الأمّة عمومًا. لكنْ، علينا أن نعي جيِّدًا أنّنا يجب أن لا نقف عند هذه النتيجة مكتوفي الأيدي. فالحالة الأدبيّة خصوصًا يجب أن لا تخضع لبقيّة الأوضاع، بل يجب أن تنهض الحركة الأدبيّة بالمجتمع، ويجب أن يرتفع صوت الأدب الحقيقيّ في فضاء المجتمعات لكي يرقى بها. ولا يكونُ ذلك إلّا إذا كانت الحالة الأدبيّة سليمةً من الشوائب قادرةً على حمل الرسالة والأمانة. ولا يتأتّى ذلك إلّا باستئصال جميع الشوائب وقمع الأدعياء المتطفّلين، عن طريق حركة نقديّة حقيقيّة فاعلة مستقلّة تعمل دون أيّ اعتبارات، وعن طريق جسم مراقِب ومحرِّر، يجعل كلّ كاتب يخجل أن ينشر ما يكتُب إذا لم يكُن في المستوى المطلوب.

Exit mobile version