يوم مزقت كتاب اللغة العبرية!، بقلم: ناضل حسنين
كنا نحن الاطفال متخمين بالعنجهيات العربية التي سبقت هذا اليوم قبل 49 عاما، وكنا نظن ان الامر يشبه الى حد بعيد اندلاع “طوشة” في الحارة بين عدد من الاخوة من جهة وساكن غريب لا اهل له وسطنا، وكان الامر في نظرنا محسوما قبل حتى ان يبدأ.
اذكر ان اليوم كان ثلاثاء وان المربي المرحوم سعد عبد الرازق (ابو جمال) الذي كنا ننتظر دخوله غرفتنا في مدرسة الطيبة الابتدائية “د” (ثانوية “عتيد” اليوم)، تأخر وحل موعد بداية الحصة الرابعة والأستاذ لا يظهر. فرحنا بغياب المعلم ككل التلاميذ في العالم يفرحون لغياب معلمهم.
وما هي إلا بضع دقائق حتى دخل الاستاذ سعد وقال بانفعال حاد باد عليه: “اقلبوا الكراسي بهدوء وانصرفوا الى بيوتكم!”. طرنا فرحا لأن المعلم اراحنا من ثلاث حصص كنا سنعاني خلالها من عناء الانضباط المدرسي والتفتيش على الوظائف المدرسية وعصا السرير المبرومة المرعبة بيد الاستاذ والصمت المفروض طوال الحصة والالتزام بعدم التحرك او الالتفات الى الجوانب او الخلف اثناء الحصة، وعلاوة على كل هذا، فأنت مطالب بأن تفهم ما يقوله المعلم وان تحفظ كل شيء وإلا ….!!!!
سارعنا الى قلب الكراسي فوق الطاولات لنساعد الفراش (البواب) على تنظيف الغرف بعد انصراف التلاميذ يوميا. خرجنا بضجيج ملأ الاجواء فخرج مدير المدرسة آنذاك المربي المرحوم عبد اللطيف حبيب (ابو عوني)، على الفور من غرفته يلاقينا. وبمجرد ظهوره اقصى الشرفة الممتدة امام الغرف، صمتنا جميعا فجأة وسرنا بهدوء وكنت انا من طلائع المسرعين الى مغادرة المدرسة فتعرضت لسؤال المدير: من سمح لكم بالمغادرة، فأجبته: الاستاذ سعد امرنا بالمغادرة … نظر الينا وتمتم كلمات لم افهمها، ثم تركنا وشأننا.
في البيت ولدهشتي، كان ابي قد عاد من عمله على غير عادته، فقد كان في تلك السنوات يعمل في المحجر (الكسارة) قرب الطيبة، وكان من عاداته العودة من عمله في ساعات العصر.
رآني ابي فقال: “جيد انك حضرت، اذهب بسرعة واجلب اختك من مدرسة ابو الجاج” (الزهراء). سألت: “ما الامر”، فقال: “الدنيا حرب”. لم افهم ما معنى هذا الحديث، ولكني لاحظت حركة من الاهالي غير عادية بجوار مدرسة “ابو الجاج” الحديثة نسبيا، إذ كان الجميع يسرع الى استخراج ابنه او ابنته ومغادرة المدرسة بسرعة. فعلت هذا انا ايضاً.
في الطريق الى البيت هدرت سماء الطيبة نظرت الى الاعلى فرأيت طائرتين متجهتين من الشرق نحو الغرب على ارتفاع منخفض، وتمكنت ان ارى عليهما علما غير علم الاستقلال الذي كنا قد احتفلنا به قبل نحو اسبوعين. عندها ادركت انها طائرات عربية.
دخلت المنزل مع شقيقتي وأسرعت نحو الغرفة الجديدة التي كان ابي قد بناها اضافة الى بيتنا المتواضع وكانت ارضيتها اسمنتية وبلا باب، حيث كنت قد القيت بحقيبتي المدرسية منذ قليل، اخرجت كتاب اللغة العبرية وكراسه التمارين البيتية ومزقتهما بكل الغل المكتنز في نفس صبي ارهقه الموضوع.
ابي وصديقه ابو العبد جلسا حول جهاز المذياع الضخم وسط الطاولة يستمعان بكل اهتمام الى البيانات التي تبثها محطة “صوت العرب”، وأمي ذهبت الى البقالة تشتري المعلبات والخميرة لإعداد الخبز وبطاريات للترانزستور القديم، فقد ينقطع التيار الكهربائي ولا مصدر للبيانات سوى المذياع. اما انا فكنت مسرورا لأنني سأتمكن من الاستماع الى عبد الحليم حافظ بأغانيه الوطنية بين البيان والبيان حتى لو انقطع التيار الكهربائي.
“بيان رقم 11 صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية: تمكنت وحدات من قواتنا المسلحة في القطاع الشمالي للجبهة تساندها الدبابات، من التوغل عبر قطاع غزة باتجاه عمق العدو. ويواصل سلاح الجو المصري دك مواقع العدو في المستعمرات الصهيونية الى الشمال من قطاع غزة ونجحت قواتنا من قطع خطوط الامدادات الخلفية لقوات العدو وكبدته خسائر فادحة في الارواح والعتاد”.
ابي يقول: نبرة المذيع لا تعجبني، ولم اعد اسمع تحليق الطائرات ونحن على خط التماس فكيف لا نسمع حتى طلقة واحدة في محيط الطيبة ؟
انا الصغير لم اكن ادرك التفاصيل، فقد كنت على يقين ان بداية الحرب تعني نهاية اسرائيل، ولهذا سارعت الى التخلص من آثارها قبل غيري، كتاب اللغة العبرية، وكل ما يهمني الآن نهاية البيان كي تعود اغنية عبد الحليم “يا اهلا بالمعارك… يا بخت من يشارك”.
بدأ الناس بالتوافد الى بيتنا لاستطلاع الامر من ابي لثقتهم بأنه يفهم ما يسمع فهو شيوعي معروف يلقي الخطب بالناس في الاجتماعات الشعبية، وكلمته مسموعة وتشهد له بأنه يدرك ما يجري.
اكتظ البيت بالرجال ولم يعد بإمكاني الوصول الى المذياع، لأن الحاضرين راحوا يبحثون عن “بي بي سي” فوجدوها تقول غير ما يقوله العرب. تغيرت سحنة معظم الرجال وراح البعض يضرب كفا بكف سواء كان واثقا أو مشككا بما يسمع.
الانجليز يقولون بالعربية ان القدس سقطت وان موشيه ديان يلتقط الصور امام حائط المبكى، وان اسرائيل تهدد بقصف القاهرة اذا بقيت جيوب مقاومة في سيناء، يعني سينا بيد من يا اخوان ؟ سأل احدهم ولم يتلق جوابا. بين دمشق والقنيطرة لا يوجد جندي سوري واحد، حسب قول “بي بي سي”، اين ذهب الجيش العربي السوري المظفر؟ الجيش الاردني غادر الى الشرق قبل انقطاع الطرق فوجد ان جيش الاحتلال الاسرائيلي كان قد بلغ النهر قبله! اصاب قصف الطيران الاسرائيلي بيانات “صوت العرب” في صميم كذبها واختلاقاتها فصمتت ولم نعد نسمع للحكاية بقية .
في هذه الايام لم اكن اعلم ما جرى وما يجري، ولكني اذكر ان امي وقفت عند الشارع الرئيس لقرية الطيبة تنتظر وصول اخيها المربي محمد حادي الذي كان يعمل مدرسا في النقب، وأنها لم تعد الى البيت إلا بعد ساعات طوال ومعها شقيقها.
لم اكن اعلم لماذا اختفى ابي عن الانظار فجأة ولأيام طويلة في احلك الظروف، فكانت امي تخبرنا نحن الصغار الخمسة، بأن ابانا غادر للعمل في بلد آخر. ولم تكن تبدي أي استياء من قدوم جحافل الشرطة والجيش كل ساعة على مدار الساعة يطرقون الباب ويفتشون البيت بحثا عن ابي كبقية رفاقه لأنه شيوعي خشية التحركات السياسية التي تحدث القلاقل، بينما كان ابي لاجئا مختبئا خلال تلك الايام في بيت العبد المرزوق (ابو مرزوق) عازم.
لم اكن ادرك كل هذه الامور ولم اكن ادرك فداحة ما جرى للعرب تحديدا، ولكني كنت ارجف خوفا كيف اواجه ابي حين يعلم انني مزقت كتاب اللغة العبرية !!!!