قلّ من الرجال من أجمع عليهم مجتمع بأسره ، وقبِل قيادتهم في عسره ويسره ، وفي فرقته وتجمعه ، أولئك الذين عزّ نظيرهم وقلّ مثيلهم ممن التف الناس حولهم ، وسمعوا بقولهم وعملوا برأيهم وتبنوا موقفهم وأيدوا نهجهم ، من عزفت نفوسهم عن المناصب وما تقلدوها وارتقت هاماتهم عن الملذات وما رغبوها ، وسيقت لهم الدنيا بمتاعها فعافوها، وجُلبت لهم الحياة بأرزائها فاستطابوها ، لأنهم من ذوي الجباه العالية والمطالب الغالية .
هم في أخلاقهم نجوم زاهرات ، وفي مواقفهم جبال راسيات ، أصحاب كلمة ثابتة وقيم فيهم نابتة ، لا تلوثهم شائبه ولا تجزعهم نائبه ، لا يُخيفهم ظالم مهما علا منصبه وأيًا كان مشربه ، إنهم منتصبو القامة ومرفوعو الهامة ، لا يتمسحون بالأعتاب ولا يمشون بالركاب ولا يحنون الرقاب ، فطوبى لهم وحسن مآب . يعيشون على مبادئ تبنوها وجاهدوا حتى أعلوها وإن سُووِموا لا يبيعوها ، أو قضوا فبقيت ولم يتركوها ، فقد عاشوا لأجلها وأحيوها .
لقد زخرت حياتهم بالمسؤولية والإنتماء ، وتسامت أنفسهم بالإخلاص والعطاء ، وتعالت أرواحهم بالمحبة والوفاء ، يحركهم في الحياة حب الله جلّ وعلا ، وعشق الوطن عزّ وسما ، لقاؤهم مع الناس ترحاب وسلام ، وعلى المحيا صفاء وابتسام ، قلوبهم بالمحبة متيمة وبالإخاء مفعمة . مُلئ الوقت عندهم بالعمل وشُحذ الوجدان لديهم بالأمل ، فعلا تقديرهم في الحياةِ وكذا قدرهم بعد المماتِ .
عرفت المرحوم منذ زمن كما عرفه الجميع وعرفته منذ عقد عن قرب . إلتقيت من أول يوم رجلًا ذا همة في المواقف والملمات وفارسًا ذا عزة في الشدائد والأزمات ، ولم يكن هذا ما شدني إلى شخص المرحوم فقط – وإني لأعلم علم اليقين أنها سلعة عزت في زمن ضاعت فيه القيم الراقية وأستُبدلت بالمصالح الفانية – إنما هي الأخلاق التي أُصبنا بها وأقيمت على فقدانها المآتم ، ظلت في حياته قائمة ، ولسلوكه ملازمة ، وفي قوله حاضرة ، وفي عمله عامرة ، للحق عنده بوصله ، وللصدق فيه محركه ، لا يتكلم إلا التزمها ولا تحرك إلا سلكها ، فهي لتصرفاته مقياس ولثباته
أساس .
كنت المناضل الوطني والملتزم الحقيقي والمقاتل الأبي ، ترفعت عن المناكفات وآنفت المزايدات ، أجمعت عليك الأحزاب والتجمعات والأندية والجمعيات ، لم تنتظر أجرًا للكفاح ولم تحسب المنصب ذروة النجاح ، أردت لُحمة وطنية ، ووحدة إجتماعية ، وقيادة سياسية ، ودعامة دينية ، ونهضة اقتصادية ذاتية . قبلت التعددية والاختلاف ورفضتها مدعاة للفرقة والخلاف .
ناديت وتبنيت – مع كثرة الأفكار – الهدف المشترك ، وآمنت بالجسد الواحد عند خوض المعترك ، رأيت المراد من الطاقات أن تتساند وتتعاضد، لا أن تتفرق وتتعاند ، وأن ما يجمعنا كأقلية عربية بين أكثرية يهودية أكثر بكثير مما يفرقنا ، فما أحوجنا بواقعنا لمثلك وما أفجعنا بيومنا لفقدك .
أردتَ نُصرة المظلومين وسد حاجات المعوزين ، فَرُحتَ تمسحُ العناء عن الكادحين ، وترفع من مقام العمال والفلاحين الذين يعيشون بكد اليمين وعرق الجبين . بخلقك قاسمت الناس الآمهم ، وبعملك حاولت تحقيق بعض آمالهم ، وبتواضعك حفظت لهم كبريائهم ، تداخلت معهم في بؤسهم وضرهم وفرحت لهم في فوزهم وغُنمهم .
تعلقتَ بالأرض أيما تعلق ، وناضلت من أجلها أيما نضال ؛ نضال الكلمة والاحتجاج والتظاهر والقتال . كنت في الصف الأول تشحذ الهمم
وتقوي النفوس وتضرب المثل الأعلى بالتضحية والفداء ، ولم تكن في الصف الأخير بعيدًا متخاذلًا رديدًا، تنتظر النتيجة لتركب الموجة إذا نالت الرماح أو تلوذ بالفرار إذا عتت الرياح .
لقد كنت عقدًا فريدًا وأنموذجًا رفيعًا ، قل أن يجود الزمان علينا بمثله ، تركت إرثًا من الأعمال ، يتعلم منه الشباب وتتربى عليه الأجيال .
أسأل الله تعالى أن يتحقق في الفقيد، ما قاله سبحانه في الحديث القدسي : ” وعزتي وجلالي ؛ لا أخرج عبدًا من الدنيا وأحب أن أرحمه حتى أوفيه بكل سيئه عملها سقمًا في جسده او إقتارًا في رزقه أوإبتلاءً في نفسه أو ولده ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر ، فإذا بقيت عليه سيئه بعد ذلك ، شددت عليه بها سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه “
أيها الراحل وأنت فينا ، وليس بفقدك إلا أنت من يُعزينا، ولكنه القدر، فإذا نزل القضاء ضاق الفضاء ، والحمد لله ، من له البقاء . فاللفقيد الرحمة ولأسرته الصبر والاحتساب .
اللهم آمين وآخر دعواهم فيها أن الحمد لله رب العالمين .