قرفصت بجوار امي وهي تخبز عند الظهيرة في ساحة بيتنا، واخبرتها بنبرة استعطاف بأن جوقة مدرستنا، وانا واحد من افرادها، سنتوجه غدا الى مدينة شفاعمرو، وان السفر مجانا، للمشاركة في المسابقة القطرية لجوقات المدارس، وانهم طلبوا منا الحضور غدا بقميص ابيض وبنطلون اسود.
ما ان سمعتني حتى القت قطعة العجين من يديها، تنهدت بعمق، ثم قالت بحزم لا يخفي انزعاجها: “من وين اجيب لك قميص ابيض هسة يما…خليها على الله، احنا بالموت لحد ما قدرنا نشتري لكم لبسة المدرسة …”.
ايقنت انه لا امل في تحقيق مطلبي. فرحت ابحث في دولاب الملابس إلى ان عثرت على قميصي المدرسي البالي من العام الماضي. ورغم لونه الازرق الفاتح إلا انه بدا لي باهتا لدرجة تخاله ابيض. وفي صبيحة اليوم التالي، ارتديت القميص الازرق الباهت البالي وتوجهت بكل حيوية وبهجة الى مدرسة الطيبة الابتدائية “د”، حيث كنت آنذاك في الصف السابع.
اخبرونا بأن الباص سيحضر في العاشرة ليقلنا الى شفاعمرو. وان علينا ان نجتمع في غرفة المختبر الفارغة، على الطابق الثاني، لإجراء التدريبات الاخيرة على الاغاني الثلاث التي سنقدمها في المسابقة. وما أن وقعت عينا الاستاذ علي زيود، مدرس الموسيقى، عليّ وعلى طالبين آخرين لا يرتديان هما أيضاً، القمصان البيض حتى استدعى ثلاثتنا اليه ووبخنا بصوت مسموع امام افراد الجوقة وعددهم نحو ثلاثين فردا، ثم اخبر الطالبين الآخرين بأنه يستغني عنهما وان عليهما العودة الى صفيهما لمزاولة دراستهما الاعتيادية. وأما أنا فأرسلني الى مدير المدرسة، عبد اللطيف حبيب، ليبت في أمري، فقد كنت ضابط الايقاع في الجوقة واعزف على الطبلة وطردي من الجوقة في هذه اللحظة يشكل معضلة.
وقفت امام غرفة المدير انتظر عودته من جولته الصباحية في ارجاء المدرسة ليقضي امري، فحملني ذهني الى اليوم الاول من العام الدراسي حين دخل علينا استاذ غريب جديد، “اسمراني” السحنة، فحمي الشعر، عريض الجبين، واسع العينين وجفاف المدخن بارز على شفتيه. وكان يحمل صندوقا لا شكل منتظم له… اسود اللون، ووضعه على طاولته ثم رفع عينيه الينا وقال: “اسمي علي زيود… هل يعرف احدكم ما هذا الصندوق؟”
دب صمت الجهل في الصف الا صوتا مغمورا من المقاعد الخلفية أجاب بلهجة تتراوح بين الجرأة وحب الظهور: “بارودة”. ضحك الاستاذ علي زيود وقال: “لا مش بارودة، هذه آلة موسيقية اسمها كمنجة”… ثم فتح صندوقه الغريب واخرج آلته العجيبة وابتدأ المشوار…
وبينما كنت استعرض لقائي الاول مع الموسيقى الملموسة، فاجأني صوت يناديني ويجردني من مخيلتي، انه زهير الطيبي، وكان عضوا في الجوقة وكان كذلك في نفس صفي ومن المقربين اليّ يزورني كثيرا في بيتنا ويحظى بحب امي اللامحدود وصداقتي به كانت مباركة من ابي. التفت الى مبعث الصوت لأرى زهيرا يلوح بيديه من بعيد وهو يركض نحوي حتى دنا مني: “تعال معي بسرعة… تعال قبل ما يرجع المدير على غرفته استعجل يلا…!”. تركت مكاني ورافقته دون ان اعلم الى اين وبما يدور في ذهنه. انطلق امامي مسرعا نحو بوابة المدرسة، وهو يحثني على الاسراع واللحاق به. غادرنا المدرسة باتجاه البلد
ركضنا معا طويلا فمررنا بجوار كوبات حوليم القديمة ثم بجوار مدرسة البنات (الغزالية) حتى بلغنا بيتهم. توقفنا خارج سور المنزل وقال: “استناني هون…”. دخل الى بيتهم وعاد بعد دقيقة او اثنتين يحمل جريدة ملفوفة. ابتعدنا عن البيت ثم توقفنا خلف سور مدرسة البنات، فتح زهير الجريدة وأخرج منها قميصا ابيض وهو يقول: “اشلح قميصك بسرعة وخذ البس هذا قميص اخوي وائل…!”، فعلت ذلك بسرعة ثم لففت قميصي الأزرق الباهت البالي بذات الجريدة وبدأنا نركض، من جديد، عائدين الى المدرسة بينما كان زهير يحدثني وهو يلهث كيف استأذن الأستاذ على انفراد ليخرج ويحضر لي قميصا أبيض.
بلغنا المدرسة، وتوجهت انا مباشرة الى غرفة المدير لإحضار الطبلة التي كانت تحفظ هناك. حملتها ورحت بها إلى غرفة المختبر حيث سيبدأ التدريب الاخير على اغاني المسابقة مع بقية أفراد الجوقة… استرخيت على الكرسي وانا اشعر بأنني الآن جندي بكامل عتاده صار مستعدا للمواجهة.
حضر الباص وسافرنا الى شفاعمرو. شاركنا وفزنا بالمرتبة الثانية ونشروا صورة كبيرة لجوقتنا على صفحات العدد التالي من مجلة “اليوم لأولادنا”… شاهد ابي الصورة وغمره الاعتزاز …شاهدت امي الصورة فرمقتني والسؤال في عينيها، همست لها: “زهير اعطاني قميص اخوه”. صمتت لبرهة ثم تمتمت بهمس: “الله يرضى عليه وعليك…”.