إضراب الحرية في نيسان، بقلم جواد بولس
في السابع عشر من نيسان الجاري سيشرع مئات من أسرى الحرية الفلسطينيين بإضراب مفتوح عن الطعام، وهي خطوة قد تتحول إلى علامة فارقة في مسيرة الحركة الأسيرة، وذلك بعد سنوات شهد فيها العالم على انقسامات فيها وترهلها، وفي بعض جيوبها استوطن “النعاس”، وغُلّبت مصالح ضيقة لبعض أفرادها وفئاتهم، فاستأثروا برغد موهوم ومزيف سهّله عامدًا سجانهم الإسرائيلي الذي صار أقوى، وأخذت سهامه تتغلغل عميقًا في الجسد حتى كادت تصيب القلب منه والكبد!
لا يستطيع أحد أن يتكهن كيف وإلى أين سيمضي هذا الكفاح، فـ”للمجهول” قوانين لا يتوقعها حتى العتاة وأسياد العتمة، وللمواجهات أشرعة لا تطالها شمس ولا يكشفها سهر، والرياح، حين تغضب، هكذا لقنتنا الطبيعة وعلّمنا الوجع، تكره الجدران وتهوى الرحيل إلى البعيد البعيد، حينها تقلع بمهارة حتى تمس شغاف السماء، ولا تستكين إلا بعد أن يُداوى القهر، وتهدأ نيران، ويرتفع الجبين، ويضحك القمر .
ربما لم يصدق الإسرائيليون نداء مروان البرغوثي الأول والذي أعلن فيه قبل أشهر أن في السابع عشر من نيسان القادم، وهو ذكرى يوم التضامن مع الأسير الفلسطيني، سيكون اليوم الأول لإضراب مفتوح عن الطعام ينفذه الأسرى في سجون الاحتلال، أو ربما عملت أذرع الأمن الإسرائيلية، طيلة هذه المدة، من أجل إجهاض الفكرة وإفشالها، فهم لم يعدموا الوسائل التي سخروها لهذه الغاية والهدف، ومعهم من الركائز المحلية “سدد ملآنة ” تدعم مساعيهم، لكننا، وقد وصلنا إلى نهاية رصيف المجازفة والرهان، نرى بوضوح أن ما بذلوه لم ينجح، فنحن قاب يومين وصيحة من حناجر الأسرى تهدهد في سماء الوطن وتعلن:
” إننا قررنا خوض معركة الأمعاء الخاوية حفاظًا على كرامتنا، ومن أجل حقوقنا الإنسانية البسيطة، ولذا نهيب بكم للتعبير عن كل معاني التضامن ومساندة الإضراب التاريخي الذي ستقوده الحركة الأسيرة بكل فصائلها ودون استثناء وبقيادة موحدة لأول مرة منذ ١٥ عامًا.. “
لقد قلنا في الماضي إن المحتل لن يسجل في معاركه نصرًا منجزًا إلا إذا نجح، أولًا بإطفاء جذوة الأمل واقتلاعها من صدور ضحاياه، وإذا أحكم، ثانيًا، سلطانه على فضاءاتهم ونيرَه على رقابهم بحيث تفقد هذه الضحايا جميع هوامش المناورة وقدرتها على التسبب بمفاجأة جلادها؛ إنها حكمة الشعوب التي خاضت معارك التحرر وخلاصات تجارب حركاتها الأسيرة التي شابهت في ظروف كفاحاتها ما واجهته وتواجهه الحركة الأسيرة الفلسطينية، فإذا ما تقبلنا هذه المقاربات ووازينا بينها، سنعي، عندها، معنى خطوة الأسرى وأهمية قرارهم وتبعات نجاحه أو فشله.
فالإضراب المعلن يندرج، وفقًا للتعريفات المقبولة، كإضراب مطلبي، والوثيقة التي أعدتها قيادات وكوادر الأسرى حددت رزمة من المطالب التي على إدارة مصلحة سجون الاحتلال تنفيذها ولو بشكل جزئي، خاصة في ثلاثة موضوعات رئيسية: حق الأسرى في التواصل مع عائلاتهم ومطالبتهم، لأجل هذا الغرض، بتركيب هواتف عمومية في جميع السجون ووضعها تحت تصرفهم، واستعادة العائلات حقها المكتسب بزيارة أبنائها مرتين في الشهر الواحد كما كان متبعًا قبل المس بهذا الحق وإيقافه على زيارة واحدة، والتوقف عن إساءة معاملة عائلات الأسرى عند مرورها على الحواجز العسكرية وخلال تتميم إجراءات التفتيش عند دخولهم إلى السجون .
من الواضح أن الأسرى سيخوضون معركتهم في ظروف عالمية ومحلية صعبة للغاية، ففي كثير من الدول الغربية تتنامى مشاعر القلق والخوف وتواجه مجتمعاتها قلاقل خطيرة تفقد مواطنيها نعمة الاستقرار والشعور بالأمن والرخاء، بينما تعيش معظم الدول العربية حالات من الاقتتالات الدموية وبعض هذه الدول تحول إلى مسوخ وأشباه كيانات، وفي دول العالم الإسلامي يعلو الرطن والأنين من وطاة الانقسامات المذهبية وانشطار الولاءات والاصطفافات في أحلاف هجينة عجيبة وغريبة في مشهد يذكرنا بعهود “الملل والنحل” وحروبات ملوك ” الطوائف”؛ لجميع ذلك وقبله يجب أن نضيف ما تعانيه الحالة الفلسطينية من أزمات وما تواجهه من ضغوط وحصار .في هذه المناخات ستكون مسيرة المضربين شائكة ومضنية وأعقد؛
فالاحتلال الإسرائيلي صار أكثر توحشًا وممارساته الاقتلاعية تعرّت وعرّت سياسةٓ من يحكم وسيحكم إسرائيل الكبرى في السنوات المقبلة، تيّارات تمزج بين يمينية موغلة بعنصريتها وبين عقيدة دينية سافرة عن نواياها وهرولتها وراء تعاليم “ربانية” وفقها كان ولم يزل الهيكل هو أقصى المنى.
في الواقع لقد نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية خلال عقود عمرها الأولى ببناء كيانها الوطني المميّز، ففي حين انتمت جميع كوادرها إلى فصائل العمل الكفاحي الفلسطيني، حافظت، عمليًا، قياداتها المتعاقبة على استقلالية بارزة زودتها بكل عناصر البقاء والقوة في وجه تأثيرات تفتيتية فلسطينية، وفي وجه، وهذا الأهم، قمع السجان ومكائد السياسة الإسرائيلية، التي شعر القائمون عليها أن الأسرى، بما طوروه من قيم نضالية وكوابح أخلاقية، شكلوا حركة تحوّلت إلى محمية وطنية حصينة، وحافظوا على إشعاعها ونورها خاصة في زمن الأزمات التي مر بها الواقع الفلسطيني، وتعمل ككاسر أمواج يمنع الارتطام مهما عصفت الأنواء، وكان البحر هائجًا؛ فلعقود متتالية حافظت الحركة الأسيرة على قوامها المقاوم وبقيت ضابطةً للإيقاع الوطني وقاسمٓ الشعب المشترك الذي كان يذكر الجميع، وفي كل الفصول، أن الاحتلال هو عنوان الأسى ومسبب النوائب وهو مولّد الذل والقاهر .
لم يدم عز هذه الحركة، خاصة بعد اتفاقيات أوسلو، فلأسباب، لن نلجها في مقالتنا ، خسر الشعب الفلسطيني أهم روافد نضاله المنيعة، وذلك عندما سكن البرد مهاجع الأسرى وصارت الفئويات فراشهم، والمصالح ولاءاتهم .
لقد كانا عقدًا ونصف، كما جاء في بيان الأسرى، أعجفين، شهدنا فيهما جزْرًا موجعًا وانحسارًا محزنًا، فضوء المنارة الأوضح في ساحات المواجهة اليومية خبا، وكثيرون ممن راقبوا تداعي الظاهرة انتظروا، بلهفة وشوق، إعلان وفاتها، فبدأنا نسمع تعابير الفرح ونراها في وجوه بعض الضباط الذين حسبوا أن السجن قد انتصر على الإرادة، وهذا في حسابات الحرية وتخطيطهم يعادل نصرهم في ” أم المعارك”..
هكذا يكتشف من يقرأ تفاصيل هذا التاريخ منذ أربعة عقود، ولذلك أعلم ومثلي كثيرون يقدرون ما هو وقع إعلان مروان البرغوثي ورفاقه خاصة في هذه الظروف، وأستطيع إن أجزم أن الأسرى، وقبل البدء بالإضراب، قد سجلوا انتصارًا إستراتيجيًا هامًا حين طيّروا رسالتهم الأولى، وقد تكون الأهم، ومفادها : نحن هنا. غفونا لنرتاح كما يحب الصبح ويعشق الندى لكننا سنعود كالساقية بحركتها، وكي نبقى منارة لشعبنا ولكل من يحلم مثلنا بالحرية والكرامة والعزة.
إنها ليست الرسالة الوحيدة، فالبعض مطّلع على عملية الضغط الكبير الذي تواجهه القيادة الفلسطينية وخاصة مؤسسة الرئاسة من إسرائيل مباشرة ومن أنظمة عديدة جندتها إسرائيل كي تطالب القيادة الفلسطينية بالتخلي عن تبنيها لقضايا الأسرى والتوقف عن دعمهم ودعم أسرهم، وفي هذا السياق يأتي إعلان الإضراب كإيذان بما يعد له الأسرى وما قد يتحول إلى حركة شعبية واسعة جارفة؛ فمطالبة القيادة الفلسطينية بالتخلي عن دعمها للأسرى والمحررين هي أشد المسائل خطورة في حياة شعب يعيش في فترة تحرر قومي، وتعادل، في فقه النضال، تجويف الصراع مع المحتل والتسليم بالهزيمة من غير الإعلان عنها، فالحركة الأسيرة، كما قلنا دائمًا، هي الظاهرة الطبيعية في واقع غير طبيعي، لأن الاحتلال هو الطاريء والآيل إلى زوال، أما سكان السجون فهم أصحاب القضية وعرابو المستقبل .
إنها معركة كرامة بمعناها الإنساني، المباشر والبسيط، لكنها، في الواقع، صرخة من حماة الضمير ليذكّروا مجددًا من غفا أو نسي أو استسهل أو تعود أو تواطأ، أنهم، بعد خمسين عامًا ما زالوا في صبح ذلك “اليوم السابع”، وما كان ضروريا في حينه ما زال ضروريًا، فالاحتلال كان خطيئة الخطايا وسيبقى بمثابة ثقب الشرق الأسود.
إنها صرخة أحرار قد تعيد التوازن إلى معادلة يريدها كثيرون أن تبقى مختلة ومخللة، وليس كالأسرى من يحس بطعمها المر والمالح، وليس مثلهم من يعرف كيف بالوجع يكوى الذل وتداوى بالتضحيات الغطرسة والعنجهية، ومن مثلهم يعرف أن الحرية في نيسان تزهر.