بعد مضي بضعة أيام على إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي نستطيع رصد مجموعة من الملاحظات الأوّلية والتي سيكون لوجهة تطورها تأثير بالغ الأهمية على مجريات هذه الخطوة ومآلاتها المرتقبة، فلقد قلنا إن النجاح بإعلان الإضراب والقدرة على الشروع فيه، في الوقت الذي حدد له، يعتبران إنجازًا هامًا ذا دلالات على واقع جديد/ قديم قد تكرسه الحركة الأسيرة الفلسطينية مستعيدةً من خلاله دورها الكفاحي ومكانتها التاريخية الخاصة ليس فقط على المستوى الوطني المعنوي، بل بكونها محركًا منتجًا لطاقة ذات ” طعم” خاص رفدت من مواقعها نضال الشعب الفلسطيني، وبمكانتها الأثيرة دعمت، طيلة عقود خلت، ما يقدمه الطلقاء في ساحات صمودهم ومقاومتهم للاحتلال، وشكلت، كذلك، سدّا منيعًا أفشل جميع محاولات الاحتلال التي استهدفت تفتيت أواصر هذه الحركة والإعلان عن هزيمتها بطريقة كانت ستثبت للإسرائيليين وللعالم أن سلاسل السجن وعتمته أقوى من إرادة المقاومين ورموزههم القابعين وراء القضبان، على كل ما يعنيه هذا الإعلان في حياة شعب يمر في مرحلة تحرره الوطنية ومحاولاته للتخلص من نير الاحتلال.
لقد راهن بعض “المتخصصين” الإسرائيلين في شؤون الحركة الأسيرة على ما بذلوه طيلة سنوات بدأب مميز، وعلى الأسافين التي زرعوها بين مجموعات الأسرى وما حصدوه من نتائج ملموسة أرضت غرورهم وأوهمتهم بطمأنينة أوصلت بعضهم، على ما يبدو، إلى قناعة وإيمان بأن دعوة الأسرى للشروع بإضراب مفتوح عن الطعام لن تلقى تجاوبًا، وحتمًا ستفشل في مهدها وقبل أن تنطلق إلى الفضاء، وعندما واجه هؤلاء “الخبراء” حقيقة شروع المئات في الإضراب بمشاركة قيادات تاريخية بارزة ووازنة في الحركة الأسيرة، أصابتهم الصدمة فجاءت ردود فعلهم جنونية وانعكست باتخاذهم عدة خطوات قمعية فورية وقاسية تستهدف كسر شوكة المضربين وترويع باقي الأسرى لثنيهم عن فكرة الالتحاق بزملائهم كما يتوقع الكثيرون.
فمباشرة بعد إعلان الأسرى عن خطوتهم قامت مصلحة سجون الاحتلال بسحب عشرات المضربين من مواقعهم وتوزيعهم على عدة سجون، ووضعت بعضهم في زنازين عزل، ومنعتهم من لقاء محاميهم بشكل يخرق كل القواعد المتبعة وأنظمة السجون نفسها، هذا علاوة على إخراج المئات من غرفهم وإفراغها من جميع المحتويات وإعادة الأسير اليها وهو بثيابه فقط وبغطاء لن يقيه برد الليالي وقساوتها.
في التوازي مع هذه الحملة انبرى وزراء في حكومة نتنياهو وبقيادته إلى إطلاق حملة تحريض سافرة ضد المضربين صاحبها زخم إعلامي مكثف تعمّد مشيعوه بث الدعايات المسيئة ونشر التهم الجارحة، فتارة ادّعوا أن مروان البرغوثي دفع بهذه المبادرة لأغراض ذاتية وخدمة لمصالحه السياسية الخاصة، وأحيانًا نشروا ما مفاده أن وراء الخطوة تقف محركات “دحلانية” مغرضة، كما وحاولوا بثبات تشويه عناوين الإضراب وحرفه عن سكته المعلنه ودمغه بأختام سياسية فصائلية هجينة مسخرين واقع عدم انضواء أكثرية الأسرى تحت خيمة المضربين كشاهد على حقيقة ما يدعونه.
وإلى جميع ذلك نجد أن الإعلام الإسرائيلي تصرف وفق طبيعته العنصرية المتجذرة، فباستثناء بعض الأصوات والأقلام القليلة تجند معظم الصحفيين فكتبوا وهيئوا رأيًا عامًا معارضًا بإجماع كامل ضد الإضراب وأجهضوا أية امكانية لتضامن كان في الماضي عسيرًا، فصار منذ اكتمال توحش المجتمع الاسرائيلي مستحيلا.
بالمقابل استقبلت الأوساط الفلسطينية نبأ الشروع بالإضراب بحفاوة تفاوتت وتائرها بين حماس متدفق وبين تضامن “مزنّر” بحذر، فلقد شهدت الشوارع الفلسطينية والساحات في اليوم الأول مظاهر دعم جماهيري مقبول كاد أن يتحول إلى بشارة بالمطر الشعبي المبارك القادم لولا انحسار مشاهده وغيابها الشبه كلي في الأيام التي تلت، ففلسطين تعيش في هذه الأيام متاعبها وهواجسها وحياتها من غير أن يصبح الاضراب جزءًا من “اليومي” المعاش فيها أو محرّكًا حقيقيًا لمواجعها، ولذلك من الصعب تجاهل حقيقة انعكاس الحالة الفلسطينية المشوشة العامة على “روح الإضراب” ونبضه. وقبل هذا وللتأكيد نعود وننوه إلى الضعف الذي أصاب الحركة الأسيرة نفسها، وكذلك إلى ما يعتمل من مخاضات حبيسة في ساحات الوطن ودهاليزه، خاصة بعدما تحول الخلاف بين حركتي “فتح” و”حماس” إلى شرخ عضوي أصاب الجسد الفلسطيني في الصميم، وأثر على الجماهير العريضة بشكل عمودي وأفقي وخلق حالة من ” الشلل الوطني المقنع”، بينما تبقى، من ناحية أخرى، الخلافات الفتحاوية الداخلية عاملًا مقيّدًا يمنع انفلات حالة نضالية مهيبة، وذلك مهما حاولت حناجر الفتحاويين، على اختلاف نبراتها ومواقعهم، تجميل المواقف وتسويق مشاعر الدعم والتضامن مع المضربين، ففي حسابات الربح والخسارة لدى كثيرين من قيادات جميع الفصائل والحركات الفلسطينية التي أعلنت تأيدها للاضراب، لم يعد ربح ” جيب وطني ” لمعركة ضد المحتل بمثابة ربح للقضية والوطن، لأن مشروع التحرر الوطني أخضع، للأسف، منذ سنوات، لقوانين أسواق عديدة ومنها التساوق الفصائلي ولحساباتهم ” الجارية المدينة” .
إنها مشاهدات أولية قد تطرأ عليها تعديلات كثيرة، وأهمها يتعلق بموقف الأسرى المضربين أنفسهم ومن ثم بموقف من تخلف منهم، فإصرار جميع المضربين على المضي في طريقهم، وهذا ما أعلنوه مرارًا، يعد ضمانة هامة لتحقيق مطالبهم أو جزء منها، ثم يأتي موقف باقي الأسرى وبعضهم أوصل رسائل علنية عبروا فيها عن استعدادهم للالتحاق في مسيرة الإضراب لا سيما إذا ما تنكرت مصلحة السجون لرفاقهم ولما قد يصيبهم من أذى.
أما الساحة الفلسطينية فستبقى بمثابة ،”الظهر” الأقوى للحركة الأسيرة، وعلى دعمها يقع الرهان ويعقد الأمل، لكن المشوار ما زال في بداياته والأسرى يناضلون في أجواء شعبية ملتبسة وفي مرحلة سياسية تفيض بالمجاهيل وبوفرة من الاحتمالات، فإما أن يتحول التردد الفصائلي والمؤسساتي والشعبي الواضح إلى مواقف دعم ناجزة تصرف فيها إعلانات التضامن المنصاتية إلى نشاطات إسنادية كفاحية فعلية، وإما أن نبقى شهودًا في أعراس الخطابة في حين يترك الأسرى وحيدين في هذه المعركة يواجهون بواباتها المشرعة لكل جهات الريح.
من الواضح أن الانتقال إلى مرحلة الدعم الشعبي الحقيقي لإضراب الأسرى من شأنه أن يتحول إلى مفاعيل ضغط ومولدات طاقة قادرة، من جهة، على إمداد الأسرى بما يحتاجونه من جرعات أمل وإرادة وإصرار، ومن جهة أخرى، قادرة على توصيل رسالة واضحة لإسرائيل ولجميع أنحاء العالم، ومفادها: كلنا في فلسطين أسرى ونضالنا من أجل الحرية يبقى الحلم والأمل وعهدنا والقسم وقاسم الشعب المشترك.
لقد مرت أيام معدودة وما زال وقع الارتجاجات التي ولدها إعلان الإضراب باديًا بوضوح ومتداعيًا على سطح المياه الراكدة في سهول فلسطين ووهادها، فعلى الرغم من شراسة الهجمة الإسرائيلية لم ينجح مروجو الشائعات والتهم بثني المئات من الانضمام للإضراب ولا بتعطيل ما نشهده من مبادرات إسناد جماهيرية في محافظات الوطن، كما ولم ينجحوا بتثبيت افتراءاتهم وتحويلها الى شعارات رائجة في الفضاءات الفلسطينية، مع ذلك قد يكون أحد أسباب تلكؤ المد الشعبي الفلسطيني هو إصابة بعض محركات التجنيد المتمرسة وصاحبة الخبرات بفيروسات الدعاية الإسرائيلية خاصة ونحن نعرف أن لدى بعض تلك القوى الوطنية والإسلامية استعدادًا صار أقرب ” للفطري” يؤدي بصاحبه إلى تصديق ما يقال ضد بعض قيادات الإضراب وبث ما يصدقونه على موجات يسمعها ويتأثر بها من يتبعهم من الجنود والمستفيدين ، وثمة آخرون مصابون بعوارض مرض “متلازمة الأرائك ” وهو مرض يسبب الخدر ويدفع المصابين به للابتعاد عن الساحات العامة وغبار الحارات واللجوء، في أقسى حالات الطوارئ، إلى الإجادة في فقه التعازي والإنابة والخطابة.
إنها ملاحظات أولية، فمن الصعب التكهن متى وكيف سينتهي الإضراب، لكننا نعرف، من التجربة وحكمة الفشل، أن نجاح المضربين وصمودهم رغم الضغوطات والمصاعب هو أول الشروط لربح الرهان،ويليه نجاح تلك الحلقات الضيقة التي تقود عمليات إسنادهم في الخارج بإقناع أحرار العالم والجميع في فلسطين كلها، بأن الاضراب هو في صالح جميع الأسرى، وبأن ريعه سيبقى رصيدًا في حساب من يسكنون السجون في هذه الأيام ومن سيسكنونها مستقبلًا، وهو كذلك خطوة متقدمة في إحياء ثقافة النضال ضد الاحتلال وهو أول الغيث الذي قد يعيد للنهر هديره وصفاءه بعد سنين من المحل والجفاف.
من لا يشعر بمدى الارتباك الإسرائيلي ونوبات الجنون التي أصابت بعض السياسيين ومن كانوا قريبين من حياة الأسرى وحاولوا إعادة هندستها وتدجينها ، لن يستطيع تقدير معنى فشل الإضراب ووقع الخسارة وتأثيرها على مجمل مسيرة التحرر الوطني المصابة اصلًا بالعرج، ففي إسرائيل يراهنون كثيرًا على ما يجيده الاخوة الأعداء من إيذاء بعضهم بعضًا، وعلى قناعتهم، الناتجة عن عنجهية وسكر، بأن الفلسطينيين، وبعد خمسين عام أدمنوا الاحتلال واستكانوا لتراتيله، وتوقفوا عن كونهم شعبًا وتحوّلهم إلى فرق وملل وفصائل بعضها أصيب “بمتلازمة الأرائك” وآخرى تتمنى ملمس تلك الأرائك وحشوها الناعم.
لقد صدّقوا وهمهم الأكبر واقتنعوا أن النمور في فلسطين صارت مواعز، حتى أتاهم صوت فلسطين الحر من خلف الضباب فشقّ العتمة وقضّمضاجعهم وخلط أوراقهم، فأفاقوا على زئير حسبوه منقرضًا وزائلًا ،فهل، يا ترى، ستسمع فلسطين صرخة الوجع ونداء أبنائها؟ هل ستصغي إلى صهيل الحرية وهي تنشد:
إما الآن الآن، وإما هذا الليل ليس بزائل!