في تزامن عرضي نظّمت، خلال الأسبوع الفائت، المؤسستان السياسيتان القياديتان القائمتان بين المواطنين العرب في إسرائيل، مؤتمرين عامين، فدعت ” لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية ” إلى المشاركة في مؤتمر قطري تحت عنوان ” الطاقات البشرية العربية – تنظيم وتفعيل قدرات مجتمعنا” وقد انعقد في مدينة الطيبة في المثلث في يوم السبت المنصرم الموافق 20 أيار الجاري.
وبالتزامن معه تقريبًا دعت “لجنة القدس في القائمة المشتركة” وبالتعاون مع جامعة القدس الجمهور لحضور “المؤتمر الدولي حول القدس، وذلك بعد خمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلي وآفاق مستقبلية”، كما جاء في نص الدعوة التي وزعت واحتوت على تفاصيل برنامج ثلاثة أيام انعقاد المؤتمر، وذلك من الواحد والعشرين لأيار وحتى الثالث والعشرين منه.
في الواقع لم نسمع كثيرًا عن “لجنة القدس” المنبثقة عن القائمة المشتركة منذ انتخابها في الكنيست قبل حوالي ثلاثين شهرًا، بيد أن ذلك لم ينتقص من أهمية المبادرة لعقد مؤتمر دولي شارك فيه عشرات المهتمين والأكاديميين المتخصصين. ففيه ناقشوا بتفصيل جملة قضايا ذات علاقة في القدس وقطاعات المعيشة فيها، ومنها التاريخية والسياسية والقانونية والصحية والاقتصادية وغيرها، مما أفضى، كما قرأنا في بيان المؤتمرين الختامي، إلى وضع توصيات بأربعة أبعاد هامة لمستقبل القدس، هي البعد السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والأكاديمي.
عن القدس وهمها سأعود وأكتب قريبًا، ولكن ستبقى أهمية ذلك المؤتمر مرهونة بقدرة الداعين على متابعة ما تمت مناقشته وتشخيصه وبقدرتهم، كذلك، على تطبيق ما أعلنوه من توصيات وتصورات عمل مستقبلية؛ ومع تمنياتي للقدس بنجاحهم، لكنني أتساءل ومثلي فعل البعض، حول مقومات القائمة المشتركة وطاقاتها الفعلية في تبني ومتابعة قضية القدس على تعقيداتها، والكل يعلم كيف أناخت هموم هذه المدينة ، قبل المشتركة ولجنتها المتواضعة، جامعة الدول العربية ولجنة القدس الكبرى ومنظمة الدول الإسلامية وقممهم الكثيرة، والتي نثرت الرياح أكوام قرارتها حتى غدت أمام أعين المقدسيين وأوجاعهم كأوراق الشجر في فصل خريف أهوج.
على ضفة أخرى، كانت مبادرة “لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل”، وهذا هو اسمها الرسمي، خطوة لافتة ومبشرة، وتأتي، كما صرح رئيسها السيد محمد بركة في “سياق الرؤية التي وضعتها لجنة المتابعة لاستنهاض أطر وأقامة أطر جديدة تساهم في العمل الباني للمجتمع، وبالاستفادة من الطاقات البشرية بيننا..”.
قد يكون حضور المئات من الشخصيات القيادية والمجتمعية وذوي الاختصاص، طوال أعمال المؤتمر، مؤشرًا على أهميته ومقياسًا لنجاحه، كما جاء في البيان الختامي، إلا أنها تبقى عوامل غير جوهرية، فالعبرة بالمضامين، والحكم الأخير على أهمية الحدث سيبقى ملكًا للمستقبل، ولما تخبئه لنا موجعات الدهر ودهاليز السياسة وشهواتها، وهذا ما يفهم، عمليًا، من تصريح بركة الثاقب حين أعلن: “نحن لا ننهي اليوم مؤتمرًا بل نبدأ مشروعًا” .
يحمل اسم المؤتمر هواجس المبادرين إليه وإشكالاته ودلالاته الرئيسية، فهدفه الأول، رصد الطاقات البشرية التي تملكها الأقلية العربية في إسرائيل، وقد يعتبر هذا الأمر، بحد ذاته، منحى جديدًا يقوده محمد بركة، ومن قاموا معه على فكرة المؤتمر، في بحثهم على ما عندنا من قدرات ومخازن طاقات بشرية واعتبارهم ذلك قضيةً رئيسية بعدها يصير ما نحتاجه بحكم تحصيل الحاصل.
أما الهدف الثاني، فهو يتمثل بالسعي من أجل تأطير هذه الطاقات بما يدعم الهيئات السياسية التمثيلية، ويخدم مصالح مجتمعنا ويحوله إلى كيان حصين، وهي مهمة أشغلت في الماضي رفاق بركة، المعلمين الأوائل، وقيادات الجماهير العربية الذين حاولوا مرارًا إنجاز المهمة فتصدّت لمحاولاتهم الدولة وأفشلتها.
الهدف إذن بناء أطر أهلية وشعبية ومنظومات مدنية تتشارك على تحديد هدف جامع وتتفق على آلية تحقيقه، في حين تشرف المؤسسات السياسية القيادية والمفاعيل الاجتماعية الناظمة على تشبيك تلك المنظومات وتحويلها مجتمعة إلى دروع واقية في وجه سياسة الدولة العدائية أولًا، وبعدها في وجه وكلاء السوء على مختلف أصنافهم والذين تنتجهم مجتمعاتنا المحلية.
يبرز نجاح المؤتمر بشكل خاص إذا ما تذكرنا أن لجنة المتابعة العليا ما زالت تعمل ببناها القديمة وبمنهجية أرستها تحالفات تلك السنين؛ وكثيرون ما زالوا ينتظرون نجاح محمد بركة، كما تعهد، بتغيير تلك البنى واستبدالها بمؤسسة عصرية تعمل وفق رؤى حديثة ومطورة وبمفاهيم تستشرف المستقبل وتؤدي، في البداية، إلى استعادة ثقة الجمهور بمؤسساته السياسية التمثيلية.
فالحالة كما استعرضها المؤتمرون تبدو في أحد جوانبها مقلقة للغاية، حين تبين في استطلاع لرأي الجمهور بالهيئات الشعبية والرسمية أن ٧١٪ من المستطلعين راضون عن أداء لجنة المتابعة العليا إلا أن هذه النسبة اصطدمت بمعطى حول الثقة بها ، فلقد تبين أن نسبة ٢٤٪ فقط يثقون بلجنة المتابعة، بينما حازت لجنة الزكاة مثلًا على نسبة ٢٦٪ ، في حين كان نصيب الأحزاب العربية نسبة ١٤٪ فقط.
من الواضح أن هنالك كمًا هائلًا من الملابسات والعوائق التي ما زالت تحول دون إحداث طفرة جدية في مكانة لجنة المتابعة وتمكين رئيسها من تحقيق ما يؤمن به على المستوى السياسي والقيادي. بعض هذه الإشكالات ضمته السطور وبعضه غُيّب، بحكمة، لتسيير أعمال المؤتمر .
ولعل ذلك “الخط” الفاصل في عنوان المؤتمر، يعكس إحدى هذه العقبات الكأداء. فمن الغريب أن يقرأ الناس عن مؤتمر يعنى بشؤون “الطاقات البشرية العربية – تنظيم وتفعيل قدرات مجتمعنا” من دون أن يعرفوا أي العرب هؤلاء؟ وأين تقيم هذه الطاقات؟ ” ولأي جماعة تعود النا” الملصقة بمجتمعنا ؟
فالمبادرون لم يقصدوا التحري عن جميع طاقات العرب الساكنين في جميع أوطان العُرب والعالم، ولذلك فإن تمنعهم من التعاطي مع الجغرافيا وإسقاطهم من العنوان كلمة “في إسرائيل” والاستعاضة عنها “بالخط” الفاصل، يدلل على عمق إحدى المشاكل التي تتخبط بها مركبات لجنة المتابعة .
لقد استصعب المبادرون وضع عنوان المؤتمر كما يقتضيه واقع المواطنين وتعكسه مكانتهم القانونية، لان المؤتمرين جاءوا ليبحثوا عن ” الطاقات البشرية العربية في إسرائيل” وعن ” تنظيم وتفعيل قدرات مجتمعنا” المحلي، فهكذا كان سيستقيم المعنى و”يركب” السياق.
ما زال طريق بركة ورفاقه في الخندق طويلًا وتذليل ما يعتريه من عثرات بحاجة الى صبر وحكمة وحنكة، فهو يعرف أن إسقاط ” إسرائيل” من عنوان لمؤتمر يبحث كيف ستجند طاقات العرب فيها من اجل حمايتهم من ساسة إسرائيل ومن أعدائهم الداخليين، لن يسهل الرحلة، كما أن الاكتفاء بتعداد رأس مالنا البشري لن يعفي القادة من مواجهة الأسئلة الكبيرة، فكيف يفسرون اكتشاف إحدى الدراسات لهذا الغنى في الطاقات البشرية العربية المحلية؟ كيف يرون نمو هذا الكم الهائل من هذه الشرائح والنخب في غضون عقود قليلة من الزمن؟ وهل هذا التطور يعد طبيعيًا؟ وهل حصل بدعم من الدولة وما معنى ذلك؟ أو ربما غصبًا عن أنف الدولة؟ وكيف تم ذلك؟
كلنا يعرف أن واقع المواطنين العرب في إسرائيل ليس فقط ورديًا كما قد يظهر من هذه الدراسة، ولكن عندما نقرأ أننا نملك ١٣٠٠مدرسة، وأن نسبة مستحقي البجروت ( التوجيهي) أعلى من ٥٠٪ ، وعدد الطلاب العرب في الجامعات خارج البلاد عشرة آلاف طالب، وعدد قضاة المحاكم العرب وصل في العام ٢٠١٤ إلى ٥٢ قاض ( كان العدد في العام ١٩٦٤ قاض واحد)، وأن نسبة المحامين العرب تبلغ ٧٪ من عددهم العام ، وأنه في العام ١٩٦٠ كان عدد الصيادلة العرب ٢٦ فبلغ عددهم اليوم ٢٩٣٣ أي ( ٣٦٪ من عددالصيادلة في الدولة). وأنه في العام ١٩٨٠ كان عدد أطباء الأسنان ٢٥ طبيبًا أما اليوم فيصل عددهم إلى ١٧٥١ بينما كانت نسبة الأطباء العرب عام ١٩٧٠ ١٪ ( ٣٥طبيب فقط) أما اليوم فعددهم ٤٠٠٠ طبيب ( نسبة١١٪)، عندما نقرأ هذه المعطيات ، يحق لنا أن نفخر ونعتز بكنوزنا البشرية، ولن يفيدنا أن نختبئ وراء “الخطوط” وفي ظل الالتباس، فواقعنا معقد وعلينا أن نواجه الحقائق والأسئلة الصعبة لنعرف كيف نحمي مستقبلنا على أرضنا.
سيبقى مؤتمر المشتركة حول القدس لفتة جميلة وموقفًا للتاريخ، أما مؤتمر الطيبة فهو، رغم كل شيء، علامة على الطريق وبداية البشرى.