بسم الله الرّحمن الرّحيم
[وقضى ربّك ألا تعبدوا إلاّ إياهُ وبالوالدَينِ إحساناً امّا يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) واخفض لهما جناح الذلِّ من الرَّحمةِ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً (24) صدق الله العظيم:( سورة الإسراء)]
أَخُطُّ كلماتي هذه مع خالص الحزن والأسى على فقدانك يا والدي في ذكرى الثلاثين يومٍ من رحيلك عنّا وعن الحياة الدنيا. رحيلُكَ الّذي أمسى رحيلاً هادئاً ساكِناً لم يكد يشعر به أحد ممن كانوا بجوارك. خلدت للنوم بسلامٍ في تلك الليلةِ، ليلةُ الثامن عشر من نيسان سنة ألفين وسبعة عشر ميلادية والموافقة لليلةِ الواحد والعشرين من شهر رجب سنة ألف وأربعمائةٍ وثمانية وثلاثين للهجرة. إذ لم تكن مشيئة الرّحمن لك أن تستيقظَ من سباتك تلك الليلة بل سَلَّمتَ روحَكَ الطاهرة في أناء الليل لباريها في لحظةٍ يعلمها الله وحده. سلّمتها بسلامٍ استجابةً لقضاء الله عز وجل. لم تكن يوماً تهابُ المَنِيَّةَ يا أَبَتِ. عَمِلْتَ لِدينِك ولآخِرَتِك قَبل دُنْياك. جَعَلْتَ مخافةَ الله أمامَ عينيكَ في كُلِّ لحظةٍ عشتها وفي كُلِّ خطوةٍ خطوتها في حياتِك. وُلِدتَ يَتيمَ الأَب وسُميتَ بإسمه: عبد القادر عبد القادر الناشف. كنت خيرَ خَلَفٍ لخَيْرِ سَلَف. وخَلَّفتَ من ورائِك أربعة أبناءٍ وخمس بناتٍ، رَبَّيْتَهُم وعَلَّمْتَهُم خَيْرَ تربيةٍ وخَيْرَ عِلْمٍ وكنت لهم ولأبنائِهم خَيرَ مدرسةٍ للمُثُل الرَّفيعةِ، والخِصالِ الحسنة، وكَرَمِ الأخلاقِ، وورثتَهم فوق كلِّ هذا مخافةَ الله عزَّ وجل، ودَوماً كُنْتَ مُذَكِراً إيّاهُم بقولِهِ تعالى: (بسم الله الرّحمن الرَّحيم: ومن يتَّقِ اللهَ يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيثُ لا يحتسب ومن يتوكَّل على اللهِ فهو حسبه إنّ اللهَ بالغ أمره قد جعل الله لكل شيءٍ قدراً. صدق اللهُ العظيم). رحمك اللهُ يا والدي وغفر لك وأدخلك فسيحَ جناتِهِ وجعل فردوس العُلى مثواك، لِما أحسنت من النوايا والعملِ الصالح في حياتك الدنيا. لم تأبَه بالصِّعاب ولا بالعراقيل، كنت دائما وأبداً تقف صامداً كَصُمودِ شجرةِ الزيتون في قمم جبال فلسطين. عَلَّمتنا أن نَجِدَّ ونسعى وأَنَّ من يسعى، يسعى معه الله عزَّ وجل. وأنَّ ما يتبقى للإنسانِ بعد رحيلِهِ عن هذا العالم هو عمله الصّالح وسيرته العطرة. فإنْ خَلَدَ المرءُ للنَّومِ نامَ ليلَهُ الطويل مسالماً ومُسَلِّماً لقضاءِ الله، ذو ضميرٍ مرتاحٍ لأنَّهُ لم يظلم يوماً أحداً، ولم يُؤذِ أحداً، ولم يضمر الشرَّ لأَحَدٍ، بل عكس ذلك كلهِّ، أحَبَّ الخيرَ للجميعِ كما أحبَّهُ لنفسِهِ.
من موقعي هذا، ومن بين جدرانٍ مُضيئةٍ في داخلِ هذا الحرم الجامعيِّ، في صباحِ هذا اليومِ، المُشرقَةُ شمسُهُ بأشِعَةٍ غير معتادةٍ، تدخلُ عَبْرَ النّافذةِ الشَّرقيةِ وتُنير بنورِها أركانَ المكان. في هذة الوهلةِ انتابني شعورٌ وكأنَّكَ في المكان ذاته. خطفتُ للحظةٍ نظراتٍ حول القاعةِ الّتي تَعُجُّ بطلابِ العِلْمِ وهم يؤدون امتحانهم السنوي في مادَّةٍ من موادِ القانون. إذ يُخَيِّمُ على القاعَةِ صَمْتٌ يكسرُهُ من الفيهة للأخرى رفيفُ تقلُّبِ أوراقِ الإمتحانات. في وسط هذا الصَّمت عادَ بي الزّمان خمسةً وعشرين عاماً إلى الوراء، إلى حينِ كنتُ أجلسُ في تلكَ المقاعِدِ الطلابِيّةِ متلهفةً للنجاحِ، لأعودَ في آخِرِ السَّنَةِ الدراسيَّةِ لبيتي ولِوالِدَيَّ لأزُفَّ لهم فرحةَ النَّجاح، وأَنَّ تَعَبَهُم وسَهَرَ لياليهم لم يذهب هدراً.
عدتُ بذاكرتي وهلةً لصيفِ عامِ 1992 عندما عَلِمْتَ يا والدي برغبتي لدراسةِ القانون في المملكةِ المتّحدة، إذ لم تتردّد ولا للحظةٍ واحدة، لِتَلبِيَةِ طلبي. فساندتني في صنع القرار مع ثباتٍ وإصرارٍ وثقَةٍ كامِلة في حينِ لم يكن بعدُ من الدّارجِ سفر الفتياتِ خارجَ البلادِ لِطَلَبِ العلمِ. ولكنَّك لم تأبَه بعد الإتكالِ على الله عز وجل إلاَّ بما كُنتَ على قناعةٍ دائمةٍ بِه، ألا وَهُو طلَبُ العِلمِ. وأنَّ أقربَ الخلقِ للخالق هم عباده العلماء بعلمٍ نافعٍ في الدنيا والآخرة. إذ طلبُ العِلم لديك لم يكن يوما منوطاً بحدودٍ جغرافيةٍ بل هو غايَةٌ ساميةٌ ترقى بها الشعوب والأجيال. وكنت دَوماً تُرَدِّدُ قول الله تعالى: ( بسم الله الرحمن الرحيم: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. صدق الله العظيم) وقوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلمَ درجات واللهُ بما تعملون خبير. صدق الله العظيم) كما وقوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم: إنّما يخشى اللهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ. صدق الله العظيم) . كما وكنت يا والدي مردداً لحديثِ سيِّدِ الخَلقِ، سيدنا مُحَمَّد صلوات اللهِ وسلامه عليه: (عن ابي هريرةٍ رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليهِ وآلِهِ وسَلّم: من سلكَ طريقاً يلتمسُ فيهِ علماً سهّلَ اللهُ لَهُ طريقاً إلى الجَنّة. صدق رسول الله). رحمك الله يا والدي وجزاكَ كلَّ خيرٍ.
جزاك الله خيراً لتربيتك لنا ولأبنائنا، كنت دائماً على يقينٍ بأنَّ الأبوين يُرَبّون أبناءهم وبناتهم منذ الصغر على الدِّين الحنيفِ وعلى مكارم الأخلاقِ ليخرجوا للحياةِ وليسيروا على طريقٍ مستقيمٍ يُرْضي الله عزّ وجلَّ ورسوله. عَلَّمتنا يا والدي، تغمدك اللهُ بواسع رحمتهِ وأسكنك فسيحَ جناتِهِ، أنَّ تحقيقَ الغايات السامية كَطَلَب العِلْم لهو مهمةٌ لا ينالها المرء إلاَّ بالكدّ والتعب. فمن طلب العِلْم سهر الليالي واجتهد جدّ اجتهادٍ، ومهما يَكُن ذلك مُنْهِكاً للفردِ إلاَّ أنَّ الوصولَ للهدفِ السّامي يكون، بتوفيقٍ من الباري جلَّ جلاله، خيرَ عَوَضٍ وخير ثواب.
لا زلتُ أجلسُ على هذا الكرسيِّ في داخلِ القاعةِ ذاتها، التي سَطَعَت عليها شمسُ الصّباحِ وأنارت جدرانها بنورٍ لم يسبق له سابقَةً منذُ أيامٍ عِدّة. أتمعّنُ بإشراقَةِ الشمسِ وأرى بها إشراقتك يا والدي، أرى شمسك يا أبَتِ تسطع من جديدٍ مع كُلِّ إشراقَةِ يومٍ جديد. تُنير لنا الطريقَ كما أنَرْتَها لنا دائِماً بتربيتك لنا وبوجودكَ معنا، ولا زلت تفعل ذلك يا أَبَتِ بباقياتِك الصّالحات. أنت لنا يا والدي حيٌّ تُرزَقُ ساكنٌ بعقولنا، بأذهاننا، بقلوبنا وبأفئدتنا إلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها. شَمْسُك يا والدي لن تغيبَ أبداً وستبقى ساطعةً ناصعةً.
كنت دوماً خَيرَ أبٍ لنا جميعاً. الأبُ الحنون، الأبُ الحكيم، الأبُ المُرَّبي، الأبُ العالِم والمُعَلِّم، الأَبُ النَّصوح، الأبُ الدؤوب، الأَبُ الدّاعم، الأبُ المُتفاني لأبناءِهِ وبناتِهِ وأحفادِهِ وخير زوجٍ وخير أخٍ وخير صديق وخير محافظٍ على صلةِ الرَّحم الّتي أوصى بها اللهُ عزَّ وجل، رحيماً بذوي القربى واليتامى والمساكين. فلم يقصدك يتيماً يوماً إلاّ أكْرَمْتَه ولا سائلاً إلاّ أعطيتَه ولا مسكيناً إلاّ أطعمتَه ولا عابِر سبيلٍ بطَلَبٍ إلاّ استجبت له ولا محتاجاً إلاّ قضيتَ له حاجته، بكل لطف وتواضُعٍ ورِقَّةٍ وحنان وابتسامة تبعث الأمل في الصدور والقلوب.
رَحِمَك الله يا والدي، وعفا عنك، وغفر لك، وأدخلك فسيح جنّاتِهِ، وأدخلك خير مدخلٍ يَومَ الدِّينِ، وضاعف لك بميزان حسناتك لتربيتك لنا وتعليمك لنا، وتَرْبِيَةِ وتَعليمِ أجيالٍ تشهد لك بالعِفَّةِ وكَرَمِ الأخلاقِ ومخافة الله عزّ وجل. تقبل الله تعالى منك صالحَ أعمالك وجَعَلك من أصحاب المَيْمَنَةِ يوم القيامة.
بقلم الإبنة: د. عبير عبد القادر الناشف