عشنا في اسرة كان فيها أب وام، ابي كان معراج البيت، وامي كانت المكافحة، ونحن الجمع المرعيّ، انا وأربعة اشقاء.
كان ابي شابا لافتًا انيقًا، يحب ارتداء القمصان الملونة، وبناطيل الجينز، التي كانت تكويها له امي حين تتكدّس في الخزانة، وكان يلبس الأحذية السوداء، وأحيانا البُنية.
وكان يحب كرة القدم والرياضة، التي أورثنا إياها، حيث كان يصطحبني الى مباريات هبوعيل الطيبة وأحيانا هبوعيل تل ابيب.
عاش ابي رجلا معطاءً لنا ولوالدتي التي كان يعشقها، لم يبخل علينا ولم يقصّر ابدا، حتى انني اذكر من شدة حبه لنا، عندما نزلت الأسواق الحواسيب، ذهب بنا واقتنى لنا واحدا دون ان يلتفت الى سعره.
كان حبي له كبيرا لا يوصف، انتظره على برد البلاط في الغرفة كل يوم، وعندما أراه من مسافة بعيدة، كنت أركض لاحتضنه طمعًا بكرمه.
يومًا ما زار ابي المُ وكأنه ضيف بجح، حاول ابي بداية ان يداري الالم كالمعتاد امامنا، الا ان وراء الالم كانت تُرى كثيرا من المعاني، كان ابي قويًا جبارًا لا يحب ان يظهر ضعيفًا، الا ان الالم هذه المرة كان غالبًا.
ذات يوم ذهبنا الى المشفى، وتبين ان ابي يعاني من وعكة صحية في قلبه لربما بسبب ما حمله من همّ وغم عنّا في البيت، اذ كان صمام الامان، وسد منيع وسند متين.
التف الاطباء حوله، وساعدوه واستقرت حالة ابي لكنه لم يشفٓ، ايام قليلة وعاود المرض ليهاجم جسده من محورين، وهذه المرة بصرامة.
تدهورت حالة ابي، حتى انه عجز عن المشي احيانًا، ورغم كل ذلك، إن ما اذكره انه لم يقُل حتى كلمة أخٍّ واستمر في مداراة الالم مرة ليظهر قويّا كما اعتاد، ومرة ليقوي عزيمتنا التي كانت قد انهارت مع رؤيتنا له جاثما على السرير.
وبعد أشهر من المعاناة، وفي ظهيرة يوم الاثنين من العام 01.06.2015، تجمعنا حول ابي، خالاتي وعماتي واختاي وشقيقاي، واعمامي، وكنت انا.
رغم ان الامل الذي كان يسود العائلة، الا ان الخوف تملكني دائما، الخوف من يوم الفراق الأخير، الخوف من انين الوداع، ومن هذيانِ البُعد.
سرت في ذلك اليوم بدهاليز المشفى وكأني اسير في طابور مُعتمٍ، امشي، ومع كل خطوة يتبدد الامل من الغد، بدوت وكأني كائنا فضائيا تدحرجني الرياح من طرفٍ الى اخر.
كنت على وشك ان العن النور ألف مرة، وانني مقبل على العيش في الظلام. وقفت انظر في جميع ردهات القسم، وفي عيون الأقارب، رأيت حرقة خانقة تفجر الجدران.
دخلت الى الغرفة التي يرقد بها ابي، بدى في حالة من الخطر الشديد، كانت أصوات الأجهزة في الغرفة تنذر الى شيء عصيبٍ قد يحدث. شعرت ان الجدران سوف تغلق بوجوهنا.
لم تَمُر دقائق، وصمت ذلك الجهاز الذي كان يُنعش ابي، وكأنه سلّم الاخر امره الى الله، ثم ساد المكان الصمت والسكينة، وتحول الى عزاءٍ معلن، وعرجت روح ابي الى السماء في برزخ. ومات ابي في سن ال59 نتيجة مرض بالقلب لم يمهله سوى اشهر قليلة.
وفي رمضان أقف على حاشية المائدة، انتظرك وما عدت ترجع، ادخل الى البيت في كل غرفةٍ اراهم ولا اراكَ، يأتي اخي وجارنا وامي وعمي وانت لم تأتِ، تركت الدمع لنا ورحلت وحدك”.
رحمك الله واسكنك فسيح جنانه.