لم يمض أسبوعان على إعلان تعليق قادة إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي خطوتهم الاحتجاجية حتى بدا أن كثيرين يتمنون طي هذه التجربة في ثنايا غبار الواقع ودمل ما كشفته من جراح نازفة بضمادات خبيثة الإغلاق؛ وقد يراهن بعض هؤلاء على ما يولّده شرقنا من قضايا تتفجر تداعياتها على شكل مسلسلات خيالية يُعتقد أن ذبذباتها كفيلة بكتمان صراخ أمعاء المئات من أبناء فلسطين البررة الذين خاضوا بجوعهم معركة البسالة ولم يهزموا بها، بعد أن صمدوا، رغم الظروف البائسة، مدة واحد وأربعين يومًا هي في الواقع عمر براعم الكرامة العربية المتجددة وتجلي دورة الحياة وانبعاثها، وذلك في زمن كاد يقنعنا فيه سادة القمع والاستبداد وأمراء الخذلان أن الظفر دومًا كان حليفًا للسياط، وأن صولة الباطل كانت أقوى من رفعة الحق، وأن العتمة، في تاريخ هذا الشرق التعيس، كانت أدوم من النور ومن أمنيات السواسن وشقائق النعمان .
في السابع عشر من نيسان المنصرم أفقنا على نبأ يفيد بأن مئات من الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في سجون الاحتلال الإسرائيلي قد أعلنوا شروعهم باضراب مفتوح عن الطعام وقاموا بتسليم إدارة مصلحة السجون الاسرائيلية قائمة تتضمن مطالبهم، والتي تمحورت حول حقوق معيشية أساسية حرموا منها، وأكدوا أنهم ماضون في خطوتهم مهما كلّفهم ذلك من ثمن.
لا ضرورة للعودة على جميع تداعيات تلك الأيام الأربعين، ولكن لا بد من التذكير ببعض محطاتها المركزية وما أحاطها من معطيات وظروف حذرتُ سابقًا من كونها غير مؤاتية، وهذا في أحسن الأحوال، ومعادية في معظمها. فالأشقاء العرب والمسلمين يغرقون في دمائهم وبعضهم يراقص دونالد ترامب بسيوف مشرعة في حلق الكرامة الإسلامية الذبيحة، وفلسطين شقت بـ”عصا موسى” الحديثة، فصارت شطرين تجري بينهما أنهار من وعود مسكرات وحسرات، وأما الحركة الأسيرة في السجون فعاشت مؤخرًا في أخاديد وشقوق ممتلئة صدأ وشظايا وظلالًا لانكسارات الضوء الأصفر الآتي من أرض وطن عليل وصوره المشوهة.
مع كل ذلك تراها المذلة عندما تطفح وتتمختر في ساحات الأحرار، فيُستنفر الصبر ويُستقدم العزم ويصير الاقدام واجبًا والحرية خاصرة والكرامة عروس تمهر وتفتدى بالروح والمقل.
فرغم تلك الظروف ورغم ردة فعل الإسرائيلين الأعنف في تاريخ هذه المعارك، لم تنجح الضربات بكسر المضربين، وظل المئات منهم متمسكين بوقفتهم مصرين على أن المطالب تؤخذ غلابا، فلا عزل قياداتهم أثمر ولا الإمعان في “جرجرتهم” من سجن إلى آخر أسعف، ولا محاولات دق الأسافين بينهم أنتج، ولا حجبهم عن العالم الخارجي أفضى إلى هزيمة، فتيقنت إسرائيل أنها لن تفتّ صخرتهم ولن تكسر ضلعهم، وخلصت إلى أن التعاطي مع مطالبهم ضرورة، ومحاورة قيادتهم بد لا مفر عنه، والتوصل إلى توافقات من شأنها أن تمنع وقوع الأسوأ والأخطر، هو أقصر الطرق وأسلمها.
من السابق لأوانه الحكم على مصداقية ما تعهد به الجانب الإسرائيلي والتزامه بتنفيذ ما وعد به مع أننا نعرف أن مصلحة السجون شرعت بتلبية بعض المطالب الخاصة في بعض السجون، لا سيما في تلك التي لم يضرب نزلاؤها، كمكيفات الهواء والتبريد وتخصيص مطابخ صغيرة مستقلة في الأقسام وغيرها من التفاصيل المتعلقة بقضايا حياتية يومية، مع ذلك تنتظر قيادة الأسرى بتفاؤل قلق ساعة تحقيق ما اتفقوا حوله، ويؤكدون، في ذات الوقت، أن ذلك، في حالة إنجازه، سيضيف على ما أحرزوه على المستوى الاستراتيجي لغاية هذه الأيام ، فمعركتهم ، كما أفاد العديد من الأسرى الذين قمت بزيارتهم بعد إنهاء خطوتهم، أدت إلى استعادتهم للثقة بقوتهم وإثباتهم لأنفسهم أولا وللسجان الإسرائيلي، كذلك، أن ما لا يؤخذ بالعرف وبالحق سيؤخذ بالإصرار وبالنضال والمثابرة، وأملهم بانعكاس هذه القاعدة الكفاحية على الحالة الوطنية العامة.
ما زالت تفاعلات الاضراب جارية ومن المبكر حصر نتائجه بقوالب وخلاصات قطعية، فقيادات الأسرى وكوادرهم يقومون بجمع ما أمكن من معطيات ويتأهبون لتمحيصها ودراستها من أجل الاستفادة منها في معارك المستقبل؛ والى أن نسمع منهم فصل المقال، من الضروري أن ندرك مستوى درايتهم في دقائق الأمور وتميزهم الناضج بين من وقف معهم بحق وحقيقة ومن باعهم موقفًا وشعارًا وصحيفة، فهم يثمنون جميع من دعم مطالبهم وساند قرارهم، وفي نفس الوقت يعرفون ما هي بواطن ضعفهم بعد أن كشفتها المفارقات،وكشفت معها كثيرًا من التناقضات الفلسطينية ومواجعها، وربما بعض مهالكها.
لقد بين هذا الإضراب، في الحقيقة، عجز قوى جميع أطياف اليسار الفلسطيني ، فعدم انخراط الأسرى المحسوبين على هذا اليسار في الإضراب، إلا بشكل رمزي وثانوي، يقدم بينة ناجزة عمّا أصابه من هرم حوّل إمكانية خوضه للنضال الحقيقي إلى مجرد شعارات تردد من على المنصات وحَوَالات توقع بدون رصيد، وعكس، كذلك، واقع الحال الذي يعيشه اليسار في فلسطين وربما في العالم العربي الواسع، وهذا مشهد يختلف بجوهره عن موقف حركة “حماس” كما تكشّف في هذه التجربة، فقرارها، كحركة مقاومة إسلامية، أن تقف على جانب المشهد وخيارها أن لا تدفع بكوادرها للانخراط مع زملائهم المضربين الا بشكل محدود ورمزي، يبقى عمليًا بمثابة الصدى الأوجع لجرح فلسطين النازف وقرينة على أولويات حماس “الكفاحية” في صراعها مع المحتل الإسرائيلي وسجانيه.
لقد رصد الأسرى مجموعة من الضربات التي تلقوها بشكل مباشر وغير مباشر، فعلاوة على جميع أحابيل من واجههم في الخندق الإسرائيلي ومحاولات قمعهم الفاشلة، كان الالتباس في مواقف بعض القيادات الفلسطينية خاصة في الأيام الأولى للاضراب مؤلمًا ومحبطًا، ولكن يبقى موقف بعض زملائهم القياديين داخل الحركة الأسيرة هو الأشد مضاضةً، فمصلحة السجون استعانت ببعض تلك القيادات المتنفذة وجندتهم في محاولاتها للضغط على سائر الأسرى واقناعهم بعدم الانضمام إلى مواكب المضربين مستعملين في سبيل ذلك كل الوسائل والادعاءات وبهدف إفشال الإضراب والحاق الهزيمة بمن وقفوا على قيادته.
إنها المرة الأولى التي تشهد ساحة الحركة الأسيرة مثل هذه التجربة الخطيرة والممارسات الدخيلة، ولذلك يترقب الجميع كيف ستنتهي فصول تلك المأساة وكيف ومن سيرتق ما تمزق من ذلك الجسد.
على العموم، من الملاحظ أن شعورًا بالراحة ينتشر بين معظم الأسرى الذين شاركوا في الإضراب بينما قد نجد شعورًا من الندم بين بعض من لم يشاركوا فيه، ولكن من المؤكد أن الجانب الإسرائيلي، بسياسييه وخبرائه الأمنيين، والذي على ما يبدو قد راهن على عدم مقدرة الأسرى بتنفيذ إضراب بهذا الحجم والأهمية، تيقن، بعد هذه المعركة ، أن الحركة الأسيرة، ورغم التجاعيد والتشققات التي تعلو خدودها ، ما زالت تتحلى بعزيمة الشباب المناضلين وحكمة الشيوخ المتمرسين وإصرار عشاق الوطن والحرية، وليس من النباهة غمز جوانبها كتغماز التين.
منطقتنا كقدر على نار وكل ما فيها يتقلب ويجهش، ورغم ذلك تراني عدت للكتابة في شؤون معركة فلسطينية قد تبدو للبعيدين صغيرة وجانبية، لكنني أفعل ذلك من باب الوفاء لمئات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أولئك الجنود المجهولين الذين خاضوا غمار ذلك التحدي الكبير وهم عمليًا يسبحون ضد جميع التيارات والأعاصير، ولافتًا، في ذات الوقت، عناية القراء إلى ما جرى في هذه الجبهة الأمامية المنسية التي خاضت فيها كتيبة صغيرة من الأحرار المصفدين، في زمن الهزائم الكبيرة، مواجهة قاسية وجسورة ضد ظلم المحتل الإسرائيلي بالمعنى الحقيقي للنضال ومن دون مجازات ولا تورية ولا التباس.
في كل الجبهات يقاتل العرب العرب ويذبح المسلمون المسلمين، إلا هنا وراء قضبان القمع قاوم فلسطينيون بأمعائهم الخاوية سياط المحتلين ووخز هراواتهم في معركة أصر بعض من تمنى لها الفشل أن يرفقها باسم فرد وقائد مع أنها بكل بساطة كانت وقفة كرامة ومجابهة سيد القمع والاستبداد، معركة ستبقى شامة عزة على خد شعب ووطن، وسوسنة من ربيع فلسطيني لن ينتهي.
فخذوا بعض الأمل من فلسطين يا عرب.